فهرس خطب الجمعة عام 2002

خطبة الجمعة بتاريخ 29-11-2002

نص الكلمة التي ألقاها الاستاذ بتاريخ 29 نوفمبر 2002 م
الخطبة الدينية : معركة أحد – معالجات لأسباب النصر والهزيمة
الخطبة السياسية : يوم القدس العالمي

( المواجهة مع العدو مواجهة شاملة، فهي مواجهة عسكرية وسياسية، واقتصادية، وثقافية، وكل فعالية تقام في سبيل نصرة الشعب الفلسطيني، من مهرجانات، واحتفالات، ومسيرات، هي فعاليات نافعة ومطلوبة لخدمة القضية الفلسطينية )
( احذروا من شياطين الإنس، الذين يحاولون أن يدخلوا اليأس إلى قلوب المؤمنين، ويضخمون الأمر الواقع وينفخون فيه ويعظمونه أمامهم، بأنه واقع لا يمكن أن يتغير، سواء كان هذا الواقع على الصعيد الوطني، أو القومي أو العالمي، بل يطالبون المؤمنين بالتكيف مع الأمر الواقع، والتنازل عن مطالبهم المشروعة والواقعية، والله – جل جلاله – يحذر المؤمنين من هؤلاء، ويطالبهم بعدم الاستماع إليهم، ويبين لهم أن هذه الدعوة دعوة شيطانية، خلاف منطق الواقع والتاريخ والقرآن )

( يوم القدس يعني أن الشعوب المستضعفة تقول أنه لا للمستكبرين ولا للطواغيت بعد هذا اليوم، لأن في يوم القدس تحقيق أرادة المستضعفين، وإعطاؤهم الأمل بالنصر )
( نحن نعلم يقينا بأن أمريكا خاصة، شريكة للكيان الصهيوني في كل جرائمه، فهي شريكة له في اغتصاب الأرض، وتدنيس المقدسات، وظلم الشعب الفلسطيني، وكل ما يصيب الشعب الفلسطيني من ظلم، أمريكا شريكة فيه، وبوش شريك كامل لشارون في تحمل مسئولية هذه الجرائم، وعداءنا للكيان الصهيوني، لا يختلف عن عدائنا لأمريكا في شيء )
( من الواضح للجميع، أن الشعوب يائسة من أن يكون للحكام دور في تحرير فلسطين، ودائما ما يكون دور الحكام دورا سيئا في خدمة القضية الفلسطينية، منذ بدايتها حتى الآن، إذن فالمعوَّل في تحرير الأرض، وحماية المقدسات الإسلامية، ونصرة الشعب الفلسطيني على الشعوب، ومن هنا جاء يوم القدس، جاء من أجل تفعيل دور الشعوب، وخلق التوازن بينها وبين الأنظمة من أجل خدمة القضية الفلسطينية )
( العدو لا يخاف من سلاحك وعددك، بقدر ما يخاف من ثباتك وعزيمتك، فهما يكن عندك من السلاح والعدد، فما لم يكن ورائهم قوة إرادة وثبات، فإن ذلك لا ينفعك شيئا، ولهذا نجد الأعداء يهتمون كثيرا بالحرب النفسية، وينفقون عليها الملايين من الأموال، فإذا نجحت الحرب النفسية، ضعفت الإرادة وضعف العزم وتزعزع الثبات، لتأتي بعد ذلك الهزيمة، وهنا ينبغي أن نعرف أن الهزيمة السياسية والعسكرية، تسبقها دائما هزيمة نفسية، فالعتاد والعدد لا ينفعان الإنسان إذا انهزم نفسيا، وتركيز الأعداء دائما على الحرب النفسية )
( يوم القدس هو يوم الإسلام، لأن من خلال يوم القدس، تطرح الرؤية الإسلامية بشأن مناهضة قوى الظلم والبغي، وتحرير الأرض، وحماية المقدسات، والدفاع عن المظلومين، ومن خلال يوم القدس تتضح قدرة الإسلام على حشد الجماهير، وتفعيل دورها في الساحة، فيوم القدس هو يوم المستضعفين، والقضية ليست قضية القدس خاصة، وإنما يوم القدس يريد أن يقول للمستضعفين أنكم تستطيعون أن تقلبوا المعادلة، وتكسروا جماجم المستكبرين )
( الأسلحة السياسية التي تستخدمها الأنظمة في ضرب القضية الفلسطينية ، وضرب قضايا الشعوب، ليست أقل وطأة من سيوف الأعداء، ويأتي يوم القدس ليفك هذه القيود، ويحرر الشعوب، ومن ثم يصبح تحرير فلسطين على أيدي الشعوب أمرا ممكنا، من خلال تفعيل دور الشعوب، ومساعدتها على فك القيود، والتمرد على الأنظمة والحكومات، التي تحاول أن تضعف دورها، وتمنعها من تحرير الأرض الإسلامية المغتصبة )

أعوذ بالله السميع العليم من شر نفسي و من سوء عملي و من شر الشيطان الغوي الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، اللهم صل على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين ، وأصحابه المنتجبين ، ومن اتبعه بإحسان إلى قيام يوم الدين ، السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أمير المؤمنين ، السلام على فاطمة الزهراء سيدتي وسيدة نساء العالمين ، السلام على خديجة الكبرى ، السلام على الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة أجمعين ، السلام على جميع الأوصياء ، مصابيح الدجى ، وأعلام الهدى ، ومنار التقى ، والعروة الوثقى ، والحبل المتين والصراط المستقيم ، السلام على الخلف الصالح الحجة بن الحسن العسكري ، روحي وأرواح المؤمنين لتراب مقدمه الفداء ، السلام على العلماء والشهداء ، السلام على شهداء الانتفاضة ، السلام عليكم أيها الأحبة ، أيها الأخوة والأخوات في الله ورحمة الله وبركاته .

قال تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 139إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) سورة آل عمران.

كادوا .. ولكنهم اختلفوا

هاتان الآيتان نزلتا مع عدد كبير آخر من الآيات بعد معركة أحد ، وأنتم تعلمون أن في معركة أحد ، كاد المسلمون أن يحققوا النصر على المشركين في بداية الأمر ، ولكن لأن بعض المقاتلين وهم الرماة ، مالوا إلى الدنيا وطمعوا فيها فاختلفوا ، وخالفوا أمر الرسول الأعظم (ص) ، حلت الهزيمة بالمسلمين ، وقد تركت تلك الهزيمة آثارا كبيرة وعميقة في نفوس وأوضاع المسلمين ، وهاتين الآيتين فيهما بعض المعالجات لذلك الموقف .

الآية تنهى

(وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا) الوهن بمعنى الضعف الذي يصيب الجسم أو الروح أو الفكر أو العزيمة والإرادة أو الإيمان، والمقصود من الضعف في الآية هو الضعف المعنوي بكل جوانبه، أما الحزن فهو خلاف الفرح ، ويصاب الإنسان بالحزن إذا فقد شيئا مما يحب أو يملك ، والآية الشريفة المباركة تنهى المؤمنين عن الوهن والحزن ، سواء لما أصابهم أو ما فاتهم من النصر .

العدو لا يخاف سلاحك

دائما ما تحاول القيادات أن تكون على اتصال مع قواعدها ، سواء كانت قيادات عسكرية أو سياسية أو غيرها من صنوف القيادات ، وأن ترفع من الروح المعنوية لدى أتباعهم ، لأن النصر لا يتحقق من خلال القوة المادية فحسب ، وإنما يحتاج إلى الثبات والعزيمة والإرادة الصلبة ، بل إن الثبات والعزيمة والإرادة هي أكثر خطرا من العدد والعتاد ، فالعدو لا يخاف من سلاحك وعددك ، بقدر ما يخاف من ثباتك وعزيمتك ، فهما يكن عندك من السلاح والعدد ، فما لم يكن ورائهم قوة إرادة وثبات ، فإن ذلك لا ينفعك شيئا ، ولهذا نجد الأعداء يهتمون كثيرا بالحرب النفسية ، وينفقون عليها الملايين من الأموال ، فإذا نجحت الحرب النفسية ، ضعفت الإرادة وضعف العزم وتزعزع الثبات ، لتأتي بعد ذلك الهزيمة ، وهنا ينبغي أن نعرف أن الهزيمة السياسية والعسكرية تسبقها دائما هزيمة نفسية ، فالعتاد والعدد لا ينفعان الإنسان إذا انهزم نفسيا ، وتركيز الأعداء دائما على الحرب النفسية .

القرآن يقدم المعالجات

القرآن الكريم يحذرنا من الاستسلام للحرب النفسية ، ويؤمرنا بالثبات وقوة العزيمة والإرادة ، في المواجهة السياسية والعسكرية ، وفي ساحات المواجهة كلها ، وينهانا عن الضعف المعنوي الذي يسبب لنا ضعف العزيمة والإرادة ، وينهانا عن الحزن لما يصيبنا من أضرار مادية في المواجهة ، أو ما يفوتنا من النصر في بعض المعارك أحيانا ، ويقدم القرآن الكريم ثلاث معالجات ، لحالات الوهن والضعف ، التي قد يصيب المؤمنين :

المعالجة الأولى – قوله تعالى: (وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) الأعلون جمع أعلى ، والمقصود بذلك أنكم أنتم المنتصرون والظافرون والغالبون ، بشرط أن تكونوا مؤمنين . هذه الآية لها ثلاث دلالة رئيسية:

لا يمكن أن ينهزم

الدلالة الأولى : أن الوهن أو الضعف أو الانهزام خلاف لروح وحقيقة الإيمان ، فالذي يتمكن الإيمان الحقيقي من قلبه ، لا يمكن أن ينهزم أو يضعف ، ويصاب بالوهن في معنوياته وروحه وعزيمته ، وإنما الإيمان يوجب القوة والثبات والعزيمة ، ويوجب الثقة بالله وبنصره ، ومن أعظم أمنيات الإنسان المؤمن الشهادة في سبيل الله ، وفي سبيل إعلاء كلمة الحق ، إذن .. فالإنسان المؤمن الذي يتمكن الإيمان الحقيقي من قلبه ، لا يضعف ولا ينهزم ، ولا يصاب بالانكسار والخذلان .

الإحساس بالعلو

الدلالة الثانية : أن الإيمان الحقيقي يستوجب الشعور بالعلو وبالرفعة عند الإنسان المؤمن ، وليس المقصود من ذلك أن يصبح الإنسان المؤمن متكبرا ، وإنما المقصود أنه يشعر بالعلو والرفعة في مواجهة الطغيان والظلم وقوى البغي ، وذلك لأن ذات الؤمن ذات عالية ، والإنسان المؤمن من خلال ارتباطه بالله عز وجل يتكامل روحيا ، ويكون قريبا من الله ، فيتخلق بأخلاقة ، وهذا ما يجعل من ذاته عالية ونبيلة وشريفة ورفيعة ، وليست منحطة ، لأنه متصف بصفات الكمال والنبل ، كما أن منهج وفكر وإرادة وغايات الإنسان المؤمن جميعها تتصف بالعلو والرفعة ، فهو يفكر بموضوعية وواقعية ونزاهة وإخلاص ، وإرادته إرادة عالية وصلبه ، لا تضعف عن شيء من الطموح الكبير ، لأنه يستمد عزته وقوته من عزة الله وقوته ، ومنهج الإنسان المؤمن في الحياة منهج عال ، لأنه يمشي على الصراط المستقيم ، وأهداف الإنسان المؤمن وغاياته ، أهداف وغايات عالية ونبيلة أيضا ، لأنه لا يعمل من أجل مصالح شخصية ، ولا يعمل من أجل المال والجاه ، وإنما يعمل من أجل الله ، ومن أجل خدمة الناس والمصلحة العامة ، وأخيرا فإن وسائله وسائل نبيلة وشريفة . هذا الإحساس بالعلو يحمل الإنسان المؤمن على أن يعالج كل عوامل الضعف في حياته ، ويحمله على الاستعداد التضحية ليحقق الظفر والفوز في الدنيا والآخرة .

إلا إذا …

الدلالة الثالثة : أن هذه الهزيمة التي ولدت الشعور بالوهن والضعف ، لا تحقق إلا إذا كان الإنسان المؤمن قد ضيع بعض صفات الإيمان ، كالتقوى والصبر وركن لحب الدنيا ، ففي معركة أحد كان النصر حليف المؤمنين وكادوا أن يحققوه ، ولكن لما مالت نفوس البعض إلا الدنيا اختلفوا ، وخالفوا أوامر الرسول الأعظم (ص) فهزموا ، وهذا الأمر لم يكن ليحصل لولا أنهم ضيعوا بعض صفات الإيمان ، فالهزيمة إذن ، لا يمكن أن تحل بالمؤمنين إلا إذا ضيعوا بعض صفات الإيمان ، كالصبر والتقوى ووحدة الصف وطاعة القيادة الرشيدة ، وغيرها من الصفات ، أو من جهة أخرى أنهم لم يأخذوا بالأسباب الطبيعية للنصر ، فقد أمرنا بالتوكل ، وهناك فرق بين التوكل والتواكل ، والتوكل معناه أن نوفر الأسباب الطبيعية للنصر ، ثم نعتمد بعد ذلك على الله عز وجل ، كما في قوله تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ)، سورة الأنفال60، فإذا فرط الإنسان في الإعداد لأسباب النصر ، فقد خالف صفة من صفات الإيمان ، وقد يكون الركون إلى القوة الذاتية مخالف للتوكل والإعداد لأسباب النصر ، كما في قوله تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ) سورة التوبة 25، فهؤلاء القوم حينما ملكوا القوة والسلاح والعدد ، نسوا الله ، وركنوا إلى قوتهم ، فلم تنفعهم في شيء ، ولحقت بهم الهزيمة ، إذن فالآية تخبرنا أن النصر حليف المؤمنين ، وأن أسباب الهزيمة في تضييع بعض صفات الإيمان .

خلاف منطق الإيمان

المعالجة الثانية – قوله تعالى : (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ) : القرح هو أثر الجراحات ، والآية هنا تشير إلى الأضرار المادية في المواجهة ، وفي ذلك إشارة إلى أن ما أصاب المسلمين من إحساس بالضعف والوهن والحزن ، سببه هي الخسائر المادية التي حلت بهم في المواجهة ، ولأنهم فقدوا النصر ، والآية تقول لهم : أن هذه الخسائر المادية التي حلت بكم ، وعدم انتصاركم في هذه الجولة ، لا ينبغي أن يكون سببا لضعفكم وحزنكم ، فتقدم معالجات في هذا الجانب ، وتقول للمؤمنين : أنكم لستم المتضررين لوحدكم من هذه المواجهة فالأعداء يصيبهم الضرر كما يصيبكم ، وكما أنهم انتصروا عليكم في معركة أحد ، فقد انتصرتم عليهم في معركة بدر ، وقتلتم شجعانهم ، فالأضرار إذن تحل بالفريقين ، ولكن ما هو الاختلاف بينكم وبينهم ؟ الاختلاف أن منطلقاتكم وغايتكم تختلف عن منطلقاتهم وغاياتهم ، فمنطلقاتكم منطلقات إيمانية ، وأنتم بمثابة المجاهدين في سبيل الله ، وفي سبيل المصلحة العامة ، بينهما الأطراف الأخرى ليست كذلك ، كما أنكم ترجون من الثواب ما لا يرجون ، قوله تعالى : ( إن كنتم تألمون ، فإنهم يألمون كما تألمون ، وترجون من الله ما لا يرجون ) فأنتم ترجون من الله أن ينصركم ، ( وإن ينصركم الله فلا غالب لكم ) ، وبما أن غاياتكم غايات نبيلة ، فإنكم ترجون أمورا لا يرجوها الطرف الآخر ، فقد وجدتم الطرف الآخر ، يألم كما تألمون ، ومع كون أهدافه ومنطلقاته سخيفة ، وأهدافكم ومنطلقاتكم نبيلة ، ومع كونكم ترجون من الله ما لا يرجو من الثواب ، فلم يقوى الطرف الآخر على المواجهة ؟ وإذا حلت به الهزيمة يعيد ترتيب صفوفه ، ويعيد الكرة مرة أخرى وأنتم تضعفون عن ذلك ؟!! لم يضعف المؤمنين إذا حلت بهم هزيمة ، أو أصابتهم خسارة مادية ؟ إذن : فالوهن والحزن نتيجة هذه الخسائر يخالف منطق الإيمان ، ولا ينبغي أن يكون عند المؤمنين .

ليست هذه النهاية

المعالجة الثالثة – قوله تعالى : (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ)

المداولة تعني : نقل الشيء من شخص لآخر ، وقولك : تداولته الأيدي أي تناقلته ، وكون الأيام دول ، أي تنتقل من أشخاص لآخرين ، فالسلطة تنتقل من طرف لآخر ، كما أن الغلبة والنصر ينتقلان من طرف لآخر ، فقد تحصل جماعة على الحكومة والسلطة ، وبعد ذلك تفقدها ، وتستلم السلطة جماعة أخرى ، وقد تحقق جماعة ما الغلبة والنصر ، ثم تنهزم ، وتنتصر الجماعة المهزومة ، كما أن الجماعة الفقيرة قد تصبح غنية ، والجماعة الغنية تصبح فقيرة ، فالحياة ليست ثابتة ، والله جل جلاله يؤكد بأن هذه سنة مستمرة إلى يوم القيامة ، وقد كانت موجودة في الأمم السابقة ، وهي باقية في هذه الأمة إلى يوم القيامة ، فإذا حلت بجماعة ما هزيمة ، فليست هذه هي النهاية بالنسبة لهم ، فيمكن لهذه الجماعة أن تعيد صفوفها وتحقق النصر ، والجماعة المنتصرة يمكن لها أن تخسر ، وإذا كانت هناك جماعة أو دولة فقيرة ، فيمكن لهذه الجماعة أو الدولة أن تكونا غنيتان ، والجماعات والدول الغنية تصبح فقيرة ، وهكذا دواليك . إذن .. في هذه الآية تحذير للقوى العظمي وللأنظمة الظالمة ، بأن لا وجود لحالة الثبات في حركة السنن في الحياة ، فقد يتحول النصر إلى هزيمة ، وقد يفقد صاحب السلطة سلطته ، وقد تنهزم القوى العظمى ، وعليه ، فلا ينبغي أن ينتشي المنتصر بنصره ، ولا أن ييأس من أصابته الهزيمة ، وإنما الملطوب منه ، أن يعيد ترتيب صفوفه ، ويبحث عن أسباب القوة ليحقق النصر .

سوف ينصرهم الله

هذه الآية تطالب المؤمنين بأن يدرسوا أوضاعهم ، ويدرسوا أوضاع الطرف الآخر ، ويبحثوا عن عوامل القوة والضعف عندهم ، وعوامل القوة والضعف عند الطرف الآخر ، فيعززون عوامل القوة ، ويعالجون عوامل الضعف ، ويوفرون أسباب النصر المادية والظاهرية ، فيعيدون الكرة ، وسوف ينصرهم الله على جميع المستويات ، أي على المستوى السياسي ، والعسكري ، والاقتصادي ، والوطني ، والقومي ، فكل هذه المستويات مفتوحة لتحقيق النصر للمؤمنين ، وإلحاق الهزيمة بأعدائهم .

ذلك امتحان

(وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ) هذه الآية واقعا تنبهنا إلى أن تداول الأيام بين الجماعات ، حينما تتحول إحداها من الشدة إلى الرخاء ، ومن الهزيمة إلى النصر ، ومن الضعف إلى القوة وغيرها من الأحوال ، فإن ذلك امتحان ، من خلاله يعلم الله الصادقين من الكاذبين ، ويعلم الأقوياء من الضعفاء ، ويعلم الذين يعملون من أجل المصالح العامة ، من الذين يعملون من أجل المصالح الخاصة ، إذن .. فتداول الأيام وتبدلها محك للحكم على الأشخاص ومعرفتهم ، لنعرف من يستطيع تحمل المسئولية ، ومن لا يستطيع تحملها بل يقوم بتضييعها .

شياطين الإنس

والخلاصة : ان هذه الآية فيها تحذير للمؤمنين من شياطين الإنس ، الذين يحاولون أن يدخلوا اليأس إلى قلوب المؤمنين ، ويضخمون الأمر الواقع وينفخون فيه ويعظمونه أمامهم ، بأنه واقع لا يمكن أن يتغير ، سواء كان هذا الواقع على الصعيد الوطني ، أو القومي أو العالمي ، بل يطالبون المؤمنين بالتكيف مع الأمر الواقع ، والتنازل عن مطالبهم المشروعة والواقعية ، والله – جل جلاله – يحذر المؤمنين من هولاء ، ويطالبهم بعدم الاستماع إليهم ، ويبين لهم أن هذه الدعوة دعوة شيطانية ، خلاف منطق الواقع والتاريخ والقرآن .

الخطاب السياسي

يوم القدس

بعد هذه الوقفة القصيرة مع الآية الشريفة المباركة ، نأتي إلى الحديث عن يوم القدس العالمي ، فالعالم الإسلامي يعيش هذه المناسبة ، في آخر جمعة من شهر رمضان ، وقد أطلق عليه الإمام الراحل ، الخميني العظيم ( قدس سره ) بيوم القدس العالمي ، والحديث هو نفس الحديث الذي ذكرته ليلة البارحة في البلاد القديم ، وتوجد حاجة لإعادته لأن الحضور غير الحضور.

لحظة شروق

في الوقت الراهن ، إذا تأملنا بهدوء ، نجد بأن القضية الفلسطينية والمنطقة بأكملها ، تمر بمنعطف تاريخي خطير جدا ، وأن الشعب الفلسطيني ، وشعوب المنطقة ، والشعوب الإسلامية تمر بامتحان عسير ، وقد شبهت الحالة التي نمر بها الآن ، وكأننا ننتظر لحظة شروق ، من وراء ليل مظلم دامس عصيب ورهيب ، فيه رعد وبرق وعواصف ، أو كأننا ننتظر لحظة ولادة بعد مخاص عسير جدا .

لنتعرف بداية على القضية الفلسطينية ، وماذا تعني بالنسبة لنا . القضية الفلسطينية تعني ثلاثة أمور :-

أرض مغتصبة .. مقدسات تدنس .. شعب مظلوم

الأمر الأول : أن هناك أرضا إسلامية مغتصبة ، وأن هذه الأرض اغتصبت بقوة السلاح ، والتكليف الشرعي الذي أجمع عليه فقهاء الإسلام ، وجوب تحرير هذه الأرض ، ولا يجوز التخلي عن شبر واحد منها .

الأمر الثاني : أن هناك مقدسات إسلامية ، عظيمة الشأن ، رفيعة المكانة ، تتعرض للتدنيس والإهانة كل يوم ، هذه المقدسات هي بعض من تراث الأنبياء العظام ، وهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وموسى وسليمان وداود ، وعيسى بن مريم وزكريا ويحيى ، والنبي محمد (ص) ، وأن الله جل جلاله قد وضع هذا التراث أمانة في أعناق المسلمين ، ويجب على المسلمين حماية المقدسات والدفاع عنها ، وبذل الأنفس الغالية رخيصة في سبيلها ، وقد بينت هذه المسألة في حديث الجمعة بداية شهر رمضان المبارك .

الأمر الثالث : أن هناك شعبا مسلما مظلوما ، وأن بعض هذا الشعب أخرج بالقوة ، وبغير وجه حق ، والبعض الآخر يكافح من أجل تحرير الأرض ، ومن أجل حماية المقدسات ، ويجب على المسلمين كافة أن يقدموا الدعم والمساندة له ، وأن ينصروا هذا الشعب .

أمريكا شريكة الصهاينة

هذه الجرائم الثلاث ، احتلال الأرض واغتصابها ، وتدنيس المقدسات ، وظلم الشعب الفلسطيني ، تحدث على يد عصابة صهيونية ، لا تؤمن بشيء من المبادئ الإنسانية ، ولا تحترم شيئا من القوانين الدولية ، ولا تؤمن إلا بالقوة ، وهي تحظى بدعم غير محدود ، من أمريكا والغرب ، وفق تحالف استراتيجي بين الصليبية والصهيونية ، ولا أقول بين المسيحية واليهودية ، لأن المسيحية بريئة من الصليبية ، واليهودية بريئة من الصهيونية ، فالصليبية والصهيونية حركات سياسية توظف الدين لأغراضها السياسية ، ونحن نعلم يقينا بأن أمريكا خاصة ، شريكة للكيان الصهيوني في كل جرائمه ، فهي شريكة له في اغتصاب الأرض ، وتدنيس المقدسات ، وظلم الشعب الفلسطيني ، وكل ما يصيب الشعب الفلسطيني من ظلم ، أمريكا شريكة فيه ، وبوش شريك كامل لشارون في تحمل مسئولية هذه الجرائم ، وعداءنا للكيان الصهيوني ، لا يختلف عن عدائنا لأمريكا في شيء .

هذا هو حال الأنظمة

وإذا جئنا للأنظمة العربية ، نرى أنها تهمش الدين الإسلامي ، وتحاول إبعاده وعزله عن الساحة ، وهي تقوم بممارسة الكبت والتقييد لحركة الشعوب ، ولا ترتبط بها برباط ، كما أن الحكم عندها ليس وسيلة لخدمة الناس ، وإنما الحكم هدف وغاية ، ومن أجله تمارس التسلط والكبت ، وترتبط بإرادة الأجنبي ومصالحه ، وتقوم بالدفاع عنها على حساب مصالح وإرادة الشعوب .. هذا هو حال الأنظمة العربية .

بين خيارين

وعلى صعيد القضية الفلسطينية ، نملك خيارين ، خيار ما يسمى بالصلح ، وهو في الواقع خيار استسلام ، ففي القواميس السياسية ، يقسمون اتفاقية الصلح إلى قسمين ، اتفاقية مفروضة ، وهي في الحقيقة وثيقة استسلام ، وهناك اتفاقية تفاوضية ، أي أن يحصل تفاوض بين طرفين ، ويعقد الصلح بناء على هذا التفاوض ، واتفاقية السلام الموجودة بين الكيان الصهيوني والفلسطينيين ليست تفاوضية ، وإنما وثيقة استسلام ، تريد أن تفرضها أمريكا والكيان الصهيوني عليهم ، فالخيار الأول هو خيار الاستسلام ، أما الخيار الثاني ، فهو خيار المقاومة والانتفاضة من أجل تحرير الأرض ، والدفاع عن المقدسات ، ومناصرة الشعب الفلسطيني المظلوم وإعطائه حقوقه .

ميئوس منها

الأنظمة العربية وفق التعريف السابق ، تميل لخيار الاستسلام ، والشعوب تميل لخيار المقاومة ، ومن الواضح للجميع ، أن الشعوب يائسة من أن يكون للحكام دور في تحرير فلسطين ، ودائما ما يكون دور الحكام دورا سيئا في خدمة القضية الفلسطينية ، منذ بدايتها حتى الآن ، إذن فالمعوَّل في تحرير الأرض ، وحماية المقدسات الإسلامية ، ونصرة الشعب الفلسطيني على الشعوب ، ومن هنا جاء يوم القدس ، جاء من أجل تفعيل دور الشعوب ، وخلق التوازن بينها وبين الأنظمة من أجل خدمة القضية الفلسطينية ، فما الذي يعنيه يوم القدس ؟ يوم القدس العالمي يعني عدة أمور :

يوم الإسلام

أولا : أنه يوم الإسلام ، لأن من خلال يوم القدس ، تطرح الرؤية الإسلامية ، بشأن مناهضة قوى الظلم والبغي ، وتحرير الأرض ، وحماية المقدسات ، والدفاع عن المظلومين ، ومن خلال يوم القدس تتضح قدرة الإسلام على حشد الجماهير ، وتفعيل دورها في الساحة ، فيوم القدس هو يوم المستضعفين ، والقضية ليست قضية القدس خاصة ، وإنما يوم القدس يريد أن يقول للمستضعفين أنكم تستطيعون أن تقلبوا المعادلة ، وتكسروا جماجم المستكبرين .

لا للمستكبرين بعد اليوم

ثانيا : يوم القدس يعني أن الشعوب المستضعفة تقول أنه لا للمستكبرين ولا للطواغيت بعد هذا اليوم ، لأن في يوم القدس تحقيق أرادة المستضعفين ، وإعطاؤهم الأمل بالنصر .

ثالثا : يوم القدس يعني دعم الانتفاضة الفلسطينية ، ودعم خيار المقاومة والتحرير .

رابعا : يوم القدس يعني الالتزام بالثوابت ، وعدم الرضوخ للأمر الواقع ، إيمانا بقوله تعالى : (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) وهذا يعني أن تحرير القدس ممكن ، ويمكن للهزيمة أن تتحول إلى نصر ، والضعف إلى قوة ، والفقر إلى غنى .

كما أن يوم القدس له عدة أهداف :

أسلمة .. توظيف .. خلق توازن .. توحيد

الهدف الأول : أسلمة القضية الفلسطينية ، وهذا يعني توسيع دائرة الاهتمام بها ، لأن القضية الفلسطينية ليست قضية وطنية تخص الفلسطينيين لوحدهم ، وليست قضية قومية تخص العرب لوحدهم ، وإنما هي قضية إسلامية تهم كل المسلمين في العالم .

الهدف الثاني : توظيف المشاعر الدينية لخدمة القضايا العادلة على أرض الواقع ، سواء كانت قضايا ثقافية أو اجتماعية أو سياسية ، فالإسلام منهج حياة ، ويريد أن يغير الواقع ويطوره ، ويوظف المشاعر الدينية لخدمة قضاياه ، ففي شهر رمضان المبارك ، وفي يوم الجمعة خاصة ، ومن خلال الشعور الديني الذي يتولد من الصيام ، ومن قدسية رمضان وقدسية يوم الجمعة ، يمكن توظيف هذه المشاعر الدينية لخدمة القضية الفلسطينية ، وبالتالي توظيفها لخدمة كل القضايا العادلة .

الهدف الثالث : يوم القدس يريد أن يفعل دور الشعوب ، ويخلق التوازن بينها وبين الأنظمة ، فالأنظمة في حالة عجز ، وميئوس منها في خدمة القضية الفلسطينية ، وكل الأمل معقود على الشعوب ، والأنظمة تحاول أن تكبل وتقيد وتلجم الشعوب ، وقد ذكرت بأن الأسلحة السياسية التي تستخدمها الأنظمة في ضرب القضية الفلسطينية ، وضرب قضايا الشعوب ، ليست أقل وطأة من سيوف الأعداء ، ويأتي يوم القدس ليفك هذه القيود ، ويحرر الشعوب ، ومن ثم يصبح تحرير فلسطين على أيدي الشعوب أمرا ممكنا ، من خلال تفعيل دور الشعوب ، ومساعدتها على فك القيود ، والتمرد على الأنظمة والحكومات ، التي تحاول أن تضعف دورها ، وتمنعها من تحرير الأرض الإسلامية المغتصبة .

الهدف الرابع : توحيد الصفوف الإسلامية ، فقضية يوم القدس يجمع عليها كل العرب وكل المسلمين ، وهي تصلح كإطار لخلق الوحدة الوطنية ، ويمكن من خلالها البحث عن قضايا مماثلة ، يجمع عليها كل العرب والمسلمين ، لتكون إطارا لتوحيدهم .

المواجهة الشاملة

في النهاية ، فإن المواجهة مع العدو مواجهة شاملة ، فهي مواجهة عسكرية وسياسية ، واقتصادية ، وثقافية ، وكل فعالية تقام في سبيل نصرة الشعب الفلسطيني ، من مهرجانات ، واحتفالات ، ومسيرات ، هي فعاليات نافعة ومطلوبة لخدمة القضية الفلسطينية .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

بتاريخ 24 رمضان 1423 هـ الموافق 29 / 11 / 2002 م
في مسجد الشيخ خلف في قرية النويدرات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.