فهرس خطب الجمعة عام 2002

خطبة الجمعة بتاريخ 14-05-2002

نص الكلمة التي ألقاها الاستاذ بتاريخ 14 مايو 2002 م

الخطبة الدينية : الابتلاء – سنة جارية
الخطبة السياسية : الانتخابات البرلمانية ( رأي معارض ) الموقف من التيارات الداعية للدخول

( أدعو كافة الرموز الإسلامية والوطنية أن يكونوا رموزا لكل الوطن ، ولكل المواطنين ، وأن يتجاوزوا محاولات التمييز بين المواطنين ، على أساس ديني ، أو مذهبي ، أو عرقي ، وأن يكونوا ظلا لجميع المواطنين ، ويكسرون هذه الحواجز ، وأن يسعوا إلى تفعيل مبدأ المواطنة ، التي تعني : المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات ، ويفعلوا أيضا مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص ، فإذا وجد تيار ، أو وجدت جمعية ، حددت موقفها على أساس مصالحها الخاصة ، فهذا لا يعني أن تنساق باقي التيارات والجمعيات مع هذا المبدأ ، ووراء مصالحها الخاصة ، وإنما يجب أن تحدد موقفها على أساس المصلحة الوطنية المشتركة ، وأن تسجل ذلك بين يدي الله ، وللتاريخ )

( الأيديولوجية التي تسمح بظلم الآخرين هي أيديولوجية سخيفة ، لاسيما إذا حاولت – من خلال هذا التبرير – أن تفرض الأقلية نفسها على الأكثرية ، وتقدم عنوان بارزا : أن أيديولوجيتها هي أساس تقدم المجتمع ، ومن ثم تفرض نفسها كأقلية على الأكثرية ، فهذا سخف أكبر ، وهو مبرر غير معقول ، وغير مقبول )
( نحذر من محاولة تضخيم المصالح الخاصة ، لتكون مساوية إلى المصلحة العامة ، فيتصور التيار أو الجمعية ، بأن مصلحة التيار الخاصة ، مساوية إلى المصلحة العامة ، فإذا خسر ، فهذا يعني أن الوطن كله خسر ، وإذا ربح ، فالوطن كله ربح ، فتكون خسارته مساوية إلى خسارة الوطن ، وربحه مساو لربح الوطن ، وبالتالي يعطي نفسه المبرر لأن يتخذ موقفا على حساب المصالح العامة ، ويسمح لنفسه بأن يظلم التيارات والجمعيات الأخرى على هذا الأساس )
( أعداء الإسلام لا يميزون بين مذهب وآخر ، فإذا تضررت وحدة الأمة ، وتضرر الموقع الواحد للأمة ، فلن يستطيع أبناء أي مذهب أن يدافعوا عن أنفسهم ، أمام هجمة الأعداء )
( خسارة التيار العلماني في الانتخابات البلدية ، أو الفشل في مرحلة من مراحل الحوار أو التنسيق ، لا تعد مبررا للتيار العلماني ، بأن ينقلب على الديمقراطية ، فالديمقراطية : آلية عقلائية ، تنظم التنافس الشريف بين مختلف الأطراف ، ومختلف التيارات ، والطرف الخاسر ، يجب أن يقبل الخسارة بروح رياضية طيبة ، ويحاول أن يحقق لنفسه النجاح أو الفوز ، من خلال آليات شريفة ، أما أنه بمجرد أن يخسر ، أو يتوقع الخسارة ، ينقلب على الديمقراطية ، فما القيمة للديمقراطية إذن ، أو الدعوة إليها )
( نحن أولا نطالب : برفض تجزئة المصالح والمصير بين المواطنين ، ونؤكد على الموقع الواحد ، والمصير الواحد للوطن ، ولكافة المواطنين ، ونرفض أن يحدد كل طرف ، أو تيار ، أو جمعية مواقفها على أساس المصالح الخاصة لهذا التيار ، أو هذه الجمعية ، فهذا مضر وخطير على الوحدة الوطنية ، ومصالح المواطنين في الحاضر والمستقبل ، كما ندعو كافة الأطراف للتحاور على أساس المصالح المشتركة ، وتحديد الموقف الوطني الواحد على هذا الأساس )
( يجب أن نميز بين أمرين .. بين موقف من المشاركة أو المقاطعة ، مبني على الاعتقاد بأن في المقاطعة أو المشاركة مصلحة وطنية ، وبين موقف تحدد ليس على أساس قناعة بالمصلحة الوطنية ، وإنما على أساس قناعه بالمصلحة الخاصة ، فالموقف الأول لا يكون فيه الشخص ملاما ، ولكن حينما يحدد موقفه بناء على مصلحته كتيار أو جمعية على حساب المصلحة العامة أو المشتركة ، فهذا موقف خاطئ وخطير )

أعوذ بالله السميع العليم من شر نفسي و من سوء عملي و من شر الشيطان الغوي الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، اللهم صل على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين ومن اتبعه بإحسان إلى قيام يوم الدين ، السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أمير المؤمنين ، السلام على فاطمة الزهراء سيدتي وسيدة نساء العالمين ، السلام على خديجة الكبرى ، السلام على الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة ، السلام على جميع الأوصياء ، مصابيح الدجى ، وأعلام الهدى ، ومنار التقى ، والعروة الوثقى ، والحبل المتين والصراط المستقيم ، السلام على الخلف الصالح الحجة بن الحسن العسكري روحي وأرواح المؤمنين لتراب مقدمه الفداء ، السلام على العلماء والشهداء ، السلام على شهداء الانتفاضة ، السلام عليكم أيها الأحبة ، أيها الأخوة والأخوات في الله ورحمة الله وبركاته .

قال تعالى : ( ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا ، وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قلبهم ، فليعلمن الله الذين صدقوا ، وليعلمن الكاذبين * ) صدق الله العلي العظيم .
الآيات الشريفة المباركة : تتناول الإيمان وصلته بالامتحان أو الابتلاء ، وقبل أن أبدا في صلب الحديث ، حول الآية الشريفة ، أقدم لذلك بمسألة مهمة ، تلقي بظلالها على فهم الآية الشريفة ، وتضيء بعض جوانبها .
إذا نظرنا إلى مسألة الخير والشر ، وصلة ذلك بالمسئولية ، نستطيع أن نضع أيدينا على أربعة عوالم :

عوالم أربعة

العالم الأول – وهو عالم الملائكة : ويمثل عالم الطاعة ، ونموذج الخير ، وهو أعلى العوالم ، وأشرفها .
العالم الثاني – وهو عالم الشياطين من الجن : ويمثل عالم المعصية ، وأنموذج الشر ، وهو أسفل العوالم وأحطها . أما سائر الجن ، فهم عقلاء مكلفون كالإنسان ، وفيهم المؤمنين والكافرين ، إلا أن المعصية والتمرد في عالم الجن هي الغالبة ، كما أن قابلية الارتقاء ، والتقدم المادي والمعنوي في عالم الجن محدودة ، فليس للجن حضارة كالإنسان ، وهم يعيشون في عالم شبه بدائي ، وقدرته على التطور محدودة جدا ، وكذلك التقدم المعنوي ، فالجن لا يملكون الاستعداد للتقدم المعنوي الكبير كالإنسان ، وليست لديهم القدرة أن يكونوا قريبين من الله بالدرجة التي يبلغها الإنسان ، ولهذا لا نجد في الجن الأنبياء والأئمة .
العالم الثالث – وهو عالم الحيوان : ويمثل هذا العالم ، عالم الطبيعة ، والغريزة ، والفطرة البيولوجية ، وهو عالم بعيد عن التعقل ، وعن تحمل المسئولية ، وبعيد عن معرفة الخير والشر .
الإنسان بين العقل والاختيار
العالم الرابع – وهو عالم الإنسان : والإنسان يمثل مرتبة من مراتب الوجود ، وهي مرتبة متميزة ، ويمتاز الإنسان بالعقل ، وحرية الاختيار ، والإنسان بذلك يستطيع أن يتحرك بين العوالم الثلاثة ، بين عالم الملائكة ، وعالم الشياطين ، وعالم الحيوان ، فستطيع الإنسان أن يرتقي ليصل إلى مرتبة الملائكة ، بل يستطيع أن يكون أفضل من الملائكة ، كما في الحديث عن أمير المؤمنين ، علي بن أبي طالب (ع) ، وذلك حينما يتحكم ويسيطر عقل الإنسان على هواه وغرائزه ، ويكون كيان الإنسان كله محكوم بالعقل ، كما أن الإنسان يستطيع أن يهبط إلى أسفل السافلين ، فيهبط إلى مستوى شياطين الجن ، وذلك حينما يتحكم هواه في عقله ، ويكون كيان الإنسان محكوم بالهوى والغرائز ، كما أن الإنسان يستطيع أن يقف عند مرتبة الحيوان ، وهناك مستويين في ذلك :

حينما يعطل عقله

المستوى الأول – حينما يكون الإنسان أسيرا لغرائزه : فيكون كالحيوان ، وفي ذلك يقول الله تعالى : ( إن هم إلا كالأنعام ) ، فالحيوان ليس له عقل ، لأنه أسير غرائزه ، والإنسان حينما يعطل عقله ، ويكون أسيرا لغرائزه ، فهو أضل من الحيوان ( بل هم أضل سبيلا ) ، وفي هذه الحالة ، يهبط الإنسان إلى عالم الشياطين ، بل يكون أسوأ منهم ، ولذا قال تعالى : ( إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ) .
كم يؤثر …
المستوى الثاني – حينما يتخلى الإنسان عن مسئولياته في الحياة : فالإنسان مكلف ، وعليه مسئوليات وأعباء في هذه الحياة ، فإذا تخلى الإنسان عن مسئولياته في الحياة كإنسان ، وأصبح يمارس الحياة في بعدها الحيواني ، فيأكل ، ويشرب ، وينام ، وينجب فقط ، دون أن تكون له مسئولية في الحياة ، ولا يحاول أن تكون له مسئولية في الحياة ، فهذا لا يمثل أهمية له مقارنة بدوره الحقيقي ، فالمهم ليس ما يملكه الإنسان من مال ، أو جاه ، أو حتى علم ومعرفة ، وإنما كم يؤثر هذا الإنسان وكم يتحمل من مسئولية .

الآية تستنكر

بعد ذلك نأتي إلى الآية الشريفة . قال تعالى : ( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا ، وهم لا يفتنون ) الحسبان : بمعنى الظن ، والفتنة : بمعنى الابتلاء ، والامتحان ، والاختبار ، ( أحسب الناس ) استفهام استنكاري ، فيه استنكار وتوبيخ، ولهذه الآية معنيين ، بمعنى أن الآية تستنكر وتوبخ مفهومين للإيمان عند الناس :

الإيمان ليس دعاء

المفهوم الأول : أن يتصور بعض الناس ، بأن الإيمان مجرد كلمة تقال ، بأن يقول آمنت فقط ، أو أنه ادعاء ، بأن يدعي بأنه آمن ، ثم بعد ذلك ، لا يمتحن هذا الإيمان، أي أنه أن يقول آمن ، أصبح مؤمنا ، ثم لا يمتحن ، ولا يختبر في إيمانه . الآية القرآنية تستنكر هذا المفهوم ، وتؤكد بأن الإيمان حقيقة ثابتة وراسخة في القلب لا تزلزل ، وأن الإنسان يمتحن ويختبر في إيمانه ، لتظهر آفاق وحقيقة هذا الإيمان في فكره ، وقيمه ، وسلوكه . فالإيمان حقيقة وليس ادعاء ، والإيمان منهج حياة ، وطريق إلى الله – عز وجل – ويجب أن تظهر آثار ذلك في حياة وسلوك الإنسان .

هل يخسر الامتحان

والإنسان قد يمتحن على أكثر من مستوى ، فالامتحان قد يكون على مستوى الفكر والعقيدة ، بما يتعرض له الإنسان من شبهات فكرية حول العقيدة والأحكام الشرعية أو حتى حركة الإيمان في الحياة ، وقد يمتحن الإنسان على مستوى العاطفة ، حينما يقف أمام مصالحه الخاصة ، فهل يكون أسير هذه المصالح على حساب المصالح العامة ؟!! وهل تأخذه في الله لومة لائم حينما تتعلق القضية بأبيه أو أخيه أو ولده أو صديقه ؟!! هل يخضع لهذه العاطفة على حساب الحق أم لا ؟!! والإنسان قد يمتحن على المستوى العملي والواقعي في الحياة ، حينما يتعرض إلى ضغوط الحياة ، ويتعرض إلى الإغراءات ، ويتعرض إلى العقبات والصعوبات ، هل يلين أو ينحرف عن الخط المستقيم ؟!! هل يميل عن المصلحة العامة ، تحت وطأة هذه الضغوط ؟!! فالإنسان يمتحن على أكثر من مستوى ، فلا يكفي أن يقول آمنت ، بدون أن يمتحن ، فالإنسان حينما يقول : آمنت ، يمتحن في هذا الإيمان ، لكي يُعلم حقيقة هذا الإيمان في نفسه .

لست معفيا من البلاء

المفهوم الثاني : والذي تستنكره الآية ، وقد ذكره بعض المفسرين ، أن البعض قد يظن بأنه إذا قال : آمنت ، تكون له بهذا الإيمان ، كرامة على الله تعفيه من الابتلاء ، فإذا تعرض إلى الابتلاء أو الامتحان ، احتج على الله ، وهذا مفهوم خطير ، نجده عند البعض ، حتى عند من يزعمون أن لهم درجة عالية من الإيمان ، فإذا ابتلي أمثال هؤلاء ، يقولون : ماذا فعلنا بالله كي يفعل بنا كذا وكذا ، والآية تقول : بأنك حينما تؤمن لا تكون معفيا من البلاء ، وأنما تكون عرضة للبلاء ، وأن إيمانك أيضا يمتحن .

الامتحان سنة جارية

( ولقد فتنا الذين من قلبهم ) بمعنى : امتحنا أمم الأنبياء السابقين ، مما يدل على أن الامتحان سنة جارية ، وباقية في الأمم ، فهي في هذه الأمة ، كما أنها في الأمم السابقة ، فالأمم السابقة امتحنوا بنزول الأنبياء ، والكتب السماوية ، ليُعلم المصدقين من المكذبين ، وامتحنوا أيضا بالتكاليف الشرعية ، ليُعلم المطيعين من العاصين ، وامتحنوا أيضا بالبلاء ، والمصائب ، والشدائد ، وقتال ومواجهة الأعداء ، ليُعلم الصابرين والثابتين على إيمانهم ، من الجزعين والمتزعزعين في إيمانهم ، كما في قوله تعالى : ( وكأي من نبي ، قتال معه ربيون كثير ، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ، وما ضعفوا وما استكانوا ) وفي الحديث : ( لقد كان من قبلكم ، يأخذ ، فيوضع المنشار على رأسه ، فيفرق فرقتين ، أو يمشط بالمشاط من الحديد ، من دون عظمه من لحم وعصب ، لا يصرفه ذلك عن دينه ) فالأمم السابقة إذن ، تعرضوا إلى الابتلاء والامتحان ، وهذه الأمة أيضا تتعرض إلى الابتلاء والامتحان وإذا ربطنا هذه الآية بالآية السابقة ، يكون الاستنكار والتوبيخ لأحد هذين المعنيين :

الأمة مبتلاة ، وفعل الله واحد

المعنى الأول : أنه يستنكر ، أو يوبخ الظن أو الاعتقاد ، بأن هذه الأمة مستثناة من الابتلاء ، أو أنها لا تتعرض للابتلاء أو الامتحان ، مع العلم أن الابتلاء سنة باقية وجارية على جميع الأمم ، وليس لهذه السنة استثناء أو تبديل ، فالآية الشريفة تستنكر على الناس بأنهم لا يبتلون مع العلم أن الابتلاء سنة جارية وباقية .
المعنى الثاني : أن الآية الشريفة ، تستنكر أن يكون فعل الله يختلف من أمة إلى أخرى ، والحقيقة أن فعل الله ، قائم على أساس الحكمة البالغة ، فهو لا يختلف من أمة إلى أمة .

علة الابتلاء

( فليعلمن الله الذين صدقوا ، وليعلمن الكاذبين ) بمعنى : ليعلمن الله الصادقين في إيمانهم ، وليعلمن الكاذبين في دعوى الإيمان ، وعلم الله سابق على الابتلاء ، بمعنى : أن الله – عز وجل – يعلم حقيقة إيمان الإنسان قبل الابتلاء ، ولكن الآية تشير إلى أن هذا العلم ، هو علم فعلي ، بعد أن تتحول حقيقة الإيمان إلى واقع ، تظهر آثاره في الخارج ، على سلوك الإنسان ، وبمعنى آخر : أن الآية تشير إلى مرتبتين من مراتب علم الله ، فهناك العلم الذاتي ، وهو : علمه بحقيقة إيمان الإنسان قبل الابتلاء ، وهناك العلم الفعلي : حينما تتحول حقيقة وآثار هذا الإيمان إلى واقع ، فمثلا : الله – جل جلاله – يعلم بأن زيدا من الناس سوف يوجد من أبوين ، فهذا علم ذاتي سابق على وجود هذا الإنسان ، وهناك مرتبة أخرى من هذا العلم ، حينما يوجد هذا الإنسان ، فبعد أن كان علم الله سابقا ، أصبح علمه فعليا بعد إيجاد هذا الإنسان ، وقوله تعالى : ( فليعلمن الله الذين صدقوا ، وليعلمن الكاذبين ) هو بمثابة التعليل للامتحان والفتنة ، أي امتحان الإيمان ، فالغاية إذن : أن يعلم الله الصادقين من الكاذبين .

فائدة الابتلاء

فالآية تؤكد بأن الإيمان حقيقة ، وأن هذا الإيمان يجب أن يكون راسخا في القلب ، وغير متزلزل ، ويجب أن تظهر آثاره في سلوك الإنسان ، وأن السعادة التي يبشر الله بها المؤمنين ، لا تتحقق بادعاء الإيمان ، وإنما تتحقق السعادة من خلال حقيقة الإيمان ، كذلك الثواب والعقاب ، لا يكون على ادعاء ، وإنما على حقيقة ، وهناك فائدة للناس أيضا في هذه الآية ( فليعلمن الله الذين صدقوا ، وليعلمن الكاذبين ) فالناس من خلال ظهور آثار الإيمان على سلوك الإنسان ، يميزون بين الصادقين والكاذبين ، فلا يعطون الثقة لإنسان بدعوى أنه مؤمن ، وإنما لأنهم علموا إيمانه ، فيتجنبوا بذلك المنافقين والكاذبين ، ويتمسكون بالصادقين في إيمانهم .

بعد هذه الوقفة القصيرة مع الآيات الشريفة ، انتقل للحديث عن الساحة المحلية ، وأواصل الحديث السابق .
في الواقع هناك أسئلة مهمة جدا ، وتحتاج إلى إجابة ، إلا أن الوقت قصير ، في هذا اليوم أجيب على سؤال أو سؤالين حسب الوقت .

هل يصح ؟!!

السؤال : هل يصح أن يتخذ أصحاب كل تيار ، أو جمعية ، مواقفهم من المشاركة أو المقاطعة في الانتخابات القادمة ، على أساس مصالح خاصة بهذا التيار أو هذه الجمعية ؟!! أم أن الموقف يجب أن يستند إلى مصلحة عامة ، وطنية مشتركة بين كافة المواطنين ؟ وهناك من يطرح أو يقول : بأن التيار الإسلامي السني ، هو المستفيد من الوضع الراهن ، وذلك من خلال ما يستفيده من امتيازات ، قائمة على أساس التمييز الطائفي ، وبالتالي : فالإصلاحات السياسية الحقيقية ، ليست في مصلحة هذا التيار ، وهناك من يطرح أيضا : بأن التيار العلماني ، تيار نخبوي ، لا قاعدة له ، وأن الإصلاحات الديمقراطية ، الصحيحة والنزيهة ، لا تخدم مصلحة هذا التيار ، وأنه سوف يخسر أمام الإسلاميين ، كما حدث في الانتخابات البلدية ، فالمقاطعة ، وإن كانت من حيث المبدأ صحيحة ، إلا أن التيار العلماني لا يستفيد من المقاطعة ، بل يخسر ، وأن مصلحته في المشاركة ، لأنه يحصل من خلال المشاركة على الاعتراف الرسمي ، ويحصل على السلطة والنفوذ ، لأنه تيار نخبة لا قاعدة له يعول عليها في مواقفه .

أجيب على هذا السؤال في عدة نقاط :

للوطن موقع واحد

النقطة الأولى : أن للوطن موقع واحد ، ومصير واحد ، وأن مصالح جميع المواطنين ، على مختلف انتماءاتهم الفكرية والسياسية ، ترتبط بهذا الموقع الواحد ، والمصير الواحد ، وأن تجزئة المصالح ، وتجزئة المصير بين أبناء الوطن ، يضر بوحدة الوطن ، ويضر بمصالح المواطنين ، في حاضرهم ومستقبلهم ، ومن شأنه أن يفجر النزاعات والصراعات بين أبناء الوطن الواحد ، على أساس المصالح المختلفة ، فحينما نؤكد على وحدة الموقع ، ووحدة المصير ، والمصالح الوطنية المشتركة ، نحافظ على وحدة الوطن ، ونحافظ على الأمن والسلام الوطني ، فالأمن والسلام الوطني ، لا يتحقق من خلال التمييز بين المواطنين ، أو فصل مصالحهم عن بعضهم البعض ، بحيث يكون لكل تيار أو جمعية مصالح خاصة بهما ، فهذا من شأنه أن يفتت الوطن ، ويخلق الصراعات والنزاعات بين أبناء الوطن الواحد .

يجب أن نميز

النقطة الثانية : يجب أن نميز بين أمرين .. بين موقف من المشاركة أو المقاطعة ، مبني على الاعتقاد بأن في المقاطعة أو المشاركة مصلحة وطنية ، وبين موقف تحدد ليس على أساس قناعة بالمصلحة الوطنية ، وإنما على أساس قناعه بالمصلحة الخاصة ، فالموقف الأول لا يكون فيه الشخص ملاما ، ولكن حينما يحدد موقفه بناء على مصلحته كتيار أو جمعية على حساب المصلحة العامة أو المشتركة ، فهذا موقف خاطئ وخطير ، ويجب أن ننبه هؤلاء إلى أمرين :

تضخيم المصالح

الأمر الأول : بعد التأكيد على أن الموقف يجب أن يكون على أساس المصلحة الوطنية ، يجب أن نحذر من محاولة تضخيم المصالح الخاصة ، لتكون مساوية إلى المصلحة العامة ، فيتصور التيار أو الجمعية ، بأن مصلحة التيار الخاصة ، مساوية إلى المصلحة العامة ، فإذا خسر ، فهذا يعني أن الوطن كله خسر ، وإذا ربح ، فالوطن كله ربح ، فتكون خسارته مساوية إلى خسارة الوطن ، وربحه مساو لربح الوطن ، وبالتالي يعطي نفسه المبرر لأن يتخذ موقفا على حساب المصالح العامة ، ويسمح لنفسه بأن يظلم التيارات والجمعيات الأخرى على هذا الأساس .

النرجسية الأيديولوجية

الأمر الثاني : ينبغي أن نحذر من النرجسية الأيدولوجية ، بحيث يعتقد أن المصلحة الوطنية تكمن في نجاح ، أو فرض أيدولوجيته ، والتزام الناس بها ، فمثلا : نتصور نحن كإسلاميين أن المصلحة الوطنية في فرض الإسلام ، وأن الإسلام إذا خسر كل الوطن يخسر ، أو يتصور الليبراليون بأن المصلحة الوطنية في الليبرالية مثلا ، فإذا خسرت الليبرالية ، فالوطن كله يخسر ، وبالتالي يحاول هؤلاء أن يفرضوا هذه الأيديولوجية على الناس بالقوة ، ويحاولوا أن يظلموا التيارات وأصحاب الإيديولوجيات الأخرى ، فهذا غير صحيح ، فالإيديولوجيات ، تستمد قوتها من الدليل والبرهان ، ومن قناعات الناس وإيمانهم بها ، وأن الإيديولوجيا التي تفرض على الناس بالقوة ، أو الأيديولوجيا التي تسمح لأصحابها بظلم الآخرين ، والإضرار بمصلحة المواطنين تحت دعوى أن أيديولوجية هذا التيار ، هي التي ترتبط بمصلحة الوطن ، فهذا دليل على إفلاس هذه الإيديولوجية ، وهبوطها ، بل وسخفها ، فيجب أن نكون حذرين من أمثال هذا الطرح ، فهو تبرير غير واقعي ، وغير معقول ، فالأيديولوجية التي تسمح بظلم الآخرين هي أيديولوجية سخيفة ، لاسيما إذا حاولت – من خلال هذا التبرير – أن تفرض الأقلية نفسها على الأكثرية ، وتقدم عنوان بارزا : أن أيديولوجيتها هي أساس تقدم المجتمع ، ومن ثم تفرض نفسها كأقلية على الأكثرية ، فهذا سخف أكبر ، وهو مبرر غير معقول ، وغير مقبول .

المذاهب كلها سوف تتضرر

النقطة الثالثة : أن للإسلام موقع واحد ، وطريق واحد ، ومصير واحد ، وأن التموضع المذهبي على حساب وحدة الأمة ، هو أمر خطير ، بمعنى أن كل أصحاب مذهب ، يتموضعون في إطار مذهبهم ، وتهمهم مصلحة هذا المذهب على حساب المصلحة الإسلامية العامة ، أو على حساب الموقع الواحد ، والمصير الواحد للإسلام ، فيسمح كل أصحاب مذهب لأنفسهم ، بأن تظلم أصحاب المذاهب الأخرى ، بل ويتحالفون مع الباطل والظلم ، على حساب مصالح المذاهب الأخرى ، فهذا أمر خطير على مستوى الأمة ، ويضر بوحدتها ، وأنه لا يستطيع أي مذهب أن يدافع عن نفسه ، ويحفظ مصالحه إلا في ظل الأمة الإسلامية الواحدة ، فكل أصحاب مذهب ، يجب أن يحافظوا أولا ، على الأمة الأسلامية الواحدة ، ثم يحافظوا على أنفسهم في ظل هذه الوحدة ، وفي ظل الأمة الواحدة ، أما إذا حاول البعض أن ينسى الكيان الواحد للأمة ، ويفكر فقط في مصلحته كمذهب ، فسوف يفتت الأمة ، وتكون الأمة ضعيفة ، وسوف تخسر كل الأمة ، ويخسر الإسلام الواحد ، لصالح أعداء الإسلام ، فيجب أن نحذر من هذا التموضع المذهبي ، على حساب الأمة الواحدة ، لإنه يضر بالمصير الواحد ، والموقع الواحد ، والمذاهب كلها ستتضرر ، فأعداء الإسلام لا يميزون بين مذهب وآخر ، فإذا تضررت وحدة الأمة ، وتضرر الموقع الواحد للأمة ، فلن يستطيع أبناء أي مذهب أن يدافعوا عن أنفسهم ، أمام هجمة الأعداء.

يجب إنكاره

من جانب آخر ، الظلم منكر ، ويجب إنكاره ، والإنسان المسلم يجب أن ينكر الظلم الواقع على أي إنسان ، وأنه ليس من أحكام ولا أخلاق الإسلام أن يسمح أبناء مذهب ، بأن يقع الظلم على أبناء مذهب آخر ، قال تعالى : ( ولا يجرمنكم شنئان قوم ، على ألا تعدلوا ، اعدلوا ، هو أقرب للتقوى ) فالتقوى : هي التي تدعو إلى العدل مع كل الناس ، فضلا عن أبناء المذاهب الإسلامية الأخرى ، فحينما يسمح أبناء مذهب ، أن يقع الظلم على أبناء مذهب آخر ، فهذا خلاف الأخلاق الإسلامية ، وخلاف الأحكام الإسلامية الشرعية ، وهو مضر قطعا بالأمة الإسلامية الواحدة ، وأنه لن يستطيع أبناء مذهب أن يدافعوا عن أنفسهم ، إذا تضررت وحدة الأمة ، والموقع الواحد للأمة .

انقلاب على الديمقراطية

النقطة الرابعة : خسارة التيار العلماني في الانتخابات البلدية ، أو الفشل في مرحلة من مراحل الحوار أو التنسيق ، لا تعد مبررا للتيار العلماني ، بأن ينقلب على الديمقراطية ، فالديمقراطية : آلية عقلائية ، تنظم التنافس الشريف بين مختلف الأطراف ، ومختلف التيارات ، والطرف الخاسر ، يجب أن يقبل الخسارة بروح رياضية طيبة ، ويحاول أن يحقق لنفسه النجاح أو الفوز ، من خلال آليات شريفة ، أما أنه بمجرد أن يخسر ، أو يتوقع الخسارة ، ينقلب على الديمقراطية ، فما القيمة للديمقراطية إذن ، أو الدعوة إليها ، فإذا كان كل طرف : إذا كان يربح من الديمقراطية ، فسيدعو لها ، وإذا خسر ، أو توقع الخسارة ، فسينقلب عليها ، فما هي قيمة الديمقراطية ، وقيمة الدعوى إليها ، فنحن ننظر لها : بأنها آلية لتنظيم التنافس الشريف بين الأطراف .

في أوروبا

في أوروبا ، تتنافس الأطراف المختلفة ، والطرف الخاسر يقبل الخسارة بروح رياضية طيبة ، ويحاول من جديد أن يكسب بالآليات المشروعة ، لهذا نجد بأن هناك استقرار ، وأمن وطني ، ووحدة وطنية ، أما في العالم الثالث ، فبمجرد أن يخسر طرف في العملية الديمقراطية ، أو حتى يتوقع الخسارة ، ينقلب على الديمقراطية ويحاربها ، ولهذا ماذا نجد في عالمنا ؟!! نجد الحروب الأهلية !! ونجد الصراعات بين المواطنين .

ما هو المطلوب ؟

فالمطلوب من كافة الأطراف أن تتحاور ، على أساس المصالح المشتركة ، وتحدد موقفها على هذا الأساس ، فنحن أولا نطالب : برفض تجزئة المصالح والمصير بين المواطنين ، ونؤكد على الموقع الواحد ، والمصير الواحد للوطن ، ولكافة المواطنين ، ونرفض أن يحدد كل طرف ، أو تيار ، أو جمعية مواقفها على أساس المصالح الخاصة لهذا التيار ، أو هذه الجمعية ، فهذا مضر وخطير على الوحدة الوطنية ، ومصالح المواطنين في الحاضر والمستقبل ، كما ندعو كافة الأطراف للتحاور على أساس المصالح المشتركة ، وتحديد الموقف الوطني الواحد على هذا الأساس ، وأخيرا أدعو كافة الرموز الإسلامية والوطنية أن يكونوا رموزا لكل الوطن ، ولكل المواطنين ، وأن يتجاوزوا محاولات التمييز بين المواطنين ، على أساس ديني ، أو مذهبي ، أو عرقي ، وأن يكونوا ظلا لجميع المواطنين ، ويكسرون هذه الحواجز ، وأن يسعوا إلى تفعيل مبدأ المواطنة ، التي تعني : المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات ، ويفعلوا أيضا مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص ، فإذا وجد تيار ، أو وجدت جمعية ، حددت موقفها على أساس مصالحها الخاصة ، فهذا لا يعني أن تنساق باقي التيارات والجمعيات مع هذا المبدأ ، ووراء مصالحها الخاصة ، وإنما يجب أن تحدد موقفها على أساس المصلحة الوطنية المشتركة ، وأن تسجل ذلك بين يدي الله ، وللتاريخ .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

بتاريخ 1 ربيع الأول 1423 هـ الموافق 14 / 5 / 2002 م
في مسجد الشيخ خلف في قرية النويدرات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.