الشيخ النجاس صوت الضمير والصدق
الموضوع : كلمة للأستاذ عبد الوهاب حسين .
المناسبة : تأبين شيخ الشهداء الشيخ علي النجاس .
المكان : البلاد القديم ـ الحسينية المهدية .
اليوم : مساء الأربعاء ـ ليلة الخميس .
التاريخ : 8 / رجب / 1430هج .
الموافق : 1 / يوليو ـ تموز / 2009م .
أعوذ بالله السميع العليم، من شر نفسي الأمارة بالسوء، ومن شر الشيطان الرجيم .
بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله رب العالمين .
اللهم صل على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين .
السلام عليكم أيها الأحبة : أيها الأخوة والأخوات في الله ورحمة الله تعالى وبركاته .
في البداية : رحم الله من قرأ السورة المباركة الفاتحة، وأهدى ثوابها إلى روح شيخ الشهداء الشيخ علي النجاس، وإلى أرواح جميع شهداء البحرين الأبرار السعداء .
سوف أجعل الحديث على أربعة محاور رئيسية، وهي :
· البعد الروحي للمطالبة بالحقوق .
· الشيخ النجاس صوت الضمير والصدق .
· التجاوزات في الحركات الإصلاحية .
· اختلاف الخيارات في مناهج وأساليب العمل .
المحور ( 1 ) البعد الروحي للمطالبة بالحقوق : تعتبر إقامة العدل الغاية المجتمعية لدعوات الأنبياء ( عليهم السلام ) وإنزال الكتب السماوية، قول الله تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } ( الحديد : 25 ) وهذا ما سوف يحققه بشكل كامل الإمام الحجة المهدي المنتظر ( عجل الله تعالى فرجه الشريف ) حيث أنه ” سيملآ الأرض قسطا وعدلا كما ملأت ظلما وجورا ” .
والإنسان المؤمن يسعى بما هو مؤمن على خط الأنبياء ( عليهم السلام ) وضمنه، لتحقيق هذه الغاية الربانية، وهي إقامة العدل والقسط بين الناس . فهو يرفض الظلم بكافة أشكاله الفردية والمجتمعية ويقاومه ولا يستسلم له .
والإنسان العاشق لله ذي الجلال والإكرام : هو موجود نوراني مبارك معطاء، مضاد لكافة أشكال الباطل والظلم والرذيلة والتخلف، وهو بمقدار نوره المقتبس من نور الله الذي هو نور النور ومنور كل نور، يكون ماحيا للباطل والظلم والتخلف والرذيلة، وكل التجليات الشيطانية في الحياة الإنسانية، فهو على صعيد العدل والظلم :
· لا يكون إلا محبا للعدل وعاملا به ومجاهدا من أجل إقامته .
· ورافضا للظلم بكافة أشكاله الفردية والمجتمعية ومقاوما له .
وفي الحقيقة : كل ظالم وكل معين له وكل ساكت عنه، هو من حزب الشيطان الرجيم .
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : ” العامل بالظلم، والمعين عليه، والراضي به، شركاء ثلاثة ” (البحار .ج75 . ص312) .
والإنسان بما هو إنسان يكون محبا للعدل وعاملا به ومجاهدا من أجله، ورافضا للظلم ومقاوما له .
فبحسب القيم الإنسانية : الإنسان الذي يحب العدل ويعمل به ويجاهد من أجله، يعتبر إنسانا فاضلا وكاملا ومقدرا ومحترما لدى الناس، بغض النظر عن دينه ومذهبه . والإنسان الظالم والمعين على الظلم والساكت عنه، هو إنسان ناقص ومذموم لدى الناس، بغض النظر عن دينه ومذهبه .
وقد حذر القرآن الكريم من الركون إلى الظالمين، قول الله تعالى : { وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } ( هود : 113 ) وذلك : لأن الركون إلى الظالمين..
· هو ركون إلى الباطل وإلى غير الله جل جلاله .
· ويؤدي إلى الذل والهوان في الدنيا وظهور الفساد في الأرض، وكلها تجليات شيطانية لا رحمانية فيها، فالمؤمن لا يكون إلا عزيزا، قول الله تعالى : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } ( المنافقون : 8 ) .
· ويؤدي إلى عذاب الآخرة .
فهو خسارة للدين والدنيا والآخرة ( الذل والهوان في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة ) وأعتقد بهذا الخصوص :
· بأنه ليس من الفكر الإسلامي كل فكر يبرر الركون إلى الظالمين والسكوت عن ظلمهم .
· وأن تنجب المواجهة مع الظالمين لا تقلل من الخسائر المادية والمعنوية والبشرية، وإنما تزيد فيها كما ونوعا، وهذا ما أثبتته التجارب التاريخية والمعاصرة، في طول الأرض وعرضها .
المحور ( 2 ) الشيخ النجاس صوت الضمير والصدق ..
الشيخ علي النجاس عالم دين وخطيب منبر مكفوف البصر، ولو كان يبحث لنفسه عن الأعذار للتخلي عن دوره في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشأن العام، وعن المطالبة بالحقوق العدالة للمواطنين المستضعفين، والسكوت عن ظلم الظالمين، لكان له العذر عند الناس، إلا أنه تعاطى من منطلق ديني وإنساني صادق مع مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمطالبة بالحقوق الشعبية العادلة، ولم يبحث لنفسه عن عذر للتهرب عن مسؤولياته الدينية والوطنية .
لقد دخل الشيخ النجاس السجن فصبر، وعذب ماديا ومعنويا فصبر، ثم صعدت روحه إلى بارئها شهيد بارا محتسبا، فكان بحق صوت الضمير والصدق، وحجة على الخائبين والمتعذرين .
إني أرى لدور فضيلة شيخ الشهداء الشيخ علي النجاس، وما جرى عليه في السجن دلالات ودروس عديدة ينبغي علينا أن نتعلمها، منها :
( 1 ) تعلم الصدق والإخلاص في المواقف : ففي مواقف الشهيد المظلوم الشيخ علي النجاس حجة على المؤمنين، لاسيما الخاصة الذين يتفرجون فوق التل، ويمارسون النقد الفج ضد الشباب المجاهد والمضحي، ثم يهجمون كالوحوش الضارية للاستيلاء بدون حياء على ثمار جهود المستضعفين، ويرون ظلما أنهم أحق بها منهم لما تعلموه من بضع كلمات ميتة لا روح لها ولا حياة فيها، وهم لا يستحون حتى في مرحلة جني ثمار جهود المستضعفين والاستيلاء عليها، من الإساءة باستعلاء قبيح لأصحاب الفضل والنعمة عليهم من المستضعفين، وهذا دور خسيس وساقط .
( 2 ) قساوة السلطة وظلمها : فهي لم تتورع عن اعتقال هذا الإنسان الشريف الضرير والمريض، والتضييق عليه في السجن وتعذيبه والتسبب في قتله، فديدنها مع كل من يعارضها : لا رحمة ولا احترام ولا تقدير لأصحاب الشأن والوجاهة الحقيقية، وعلى كل مواطن شريف أن يختار :
· إما الجهاد في سبيل الحق والعدل والنضال من أجل الحقوق والصبر على الأذى، وله بذلك العزة والكرامة من الله جل جلاله في الدنيا والآخرة .
· وإما السكوت عن الظلم والظالمين، وله بذلك الذل والهوان والحرمان من الحقوق في الدنيا، والخزي والعار والفضيحة أمام الملأ الأعلى والعذاب الأليم في الآخرة .
( 3 ) يجب علينا ونحن نحي ذكرى هذا الشهيد المظلوم : أن نتعلم كيف نقف احتراما وإجلالا لجهود المستضعفين كافة ـ لاسيما الشهداء ـ ونقدر دورهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمطالبة بالحقوق الشعبية العادلة، وأن نسعى لحفظ حقوقهم المادية والمعنوية، منها :
· إنصافهم والاعتراف بفضلهم الكبير علينا وفيما تحقق من التقدم في هذا الوطن وما حصل عليه المواطنون من مكاسب . فبفضلهم نحن نتمتع اليوم بهذا المقدار من حرية الرأي والتعبير، ولولاهم لكنا حتى الآن تحت رحمة قانون أمن الدولة سيء الصيت، رغم أننا قد ضيعنا الكثير من المكاسب التي تحققت بفضل جهودهم، وذلك بسبب سوء إدارتنا وبتصرفاتنا غير الحكيمة وغير الشجاعة .
· الكف مطلقا عن الإساءة إليهم .
· والاعتراف بأن الشهداء شهداء أبرار لهذا الوطن .
· ويجب علينا أن نكون أوفياء لهم، ونقتدي بهم، ونواصل السير على نهجهم حتى تتحقق الأهداف التي ضحوا واستشهدوا من أجلها، ولا نسمح بتراجع المسيرة الوطنية، وتضييع ثمار تضحياتهم الطيبة . إلا أننا ـ قطعا ـ لن نكون أوفياء لهم ولنهجهم ما دمنا لا نعترف بفضلهم علينا، ولا نحسن إحياء ذكراهم .
ولا أخفيكم : أنني قد صدمت لما دخلت المأتم ورأيت هزالة الحضور !!
أهاكذا يكون تأبين شيخ الشهداء ؟!
ألم يكن هؤلاء الشهداء الأبرار هم أصحاب الفضل فيما حصلنا عليه من مكاسب ؟!
فتبا لكل قوم ولكل جماعة لا يحترمون شهداءهم، ولا يعترفون بفضلهم عليهم، ولا يعرفون كيف يقدرونهم ويحيون ذكراهم !!
المحور ( 3 ) التجاوزات في الحركات الإصلاحية ..
لا توجد في التاريخ كله حركة إصلاحية خلت من التجاوزات، حتى حركات الأنبياء والأوصياء ( عليهم السلام ) لم تخلو من تجاوزات بعض الاتباع . فالرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو خاتم الأنبياء والرسل وأفضلهم، ورغم دقته الفائقة في التربية لأصحابه والمتابعة والمحاسبة لهم، إلا أننا وجدنا بعض التجاوزات لدى بعض أصحابه في تنفيذ بعض المهام التي أوكلها إليهم، وقد وصلت بعض التجاوزات إلى سفك الدم الحرام، وهذا شيء طبيعي : لأن أصحاب الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليسوا معصومين، وليسوا على مستوى واحد من الوعي والإيمان، والمراقب الموضوعي لا يحكم على الحركة من خلال هذه التجوزات .
والخلاصة :
· إن نكران التجاوزات في الحركات الاصلاحية غير واقعي .
· وأن الحكم على الحركات الإصلاحية من خلال تجاوزات بعض الاتباع ظلم لها وإجحاف بحقها .
ولاشك أن التجاوزات تقل كما وكيفا كلما كانت التربية والمراقبة والمحاسبة من القيادة أدق، وكلما نزلت النخبة والخاصة إلى الميدان، وملأت الفراغ بالحضور الفاعل، ومارست الإرشاد والتوجيه الموضوعي، ولم تخذل الجماهير بالتفرج فوق التل، ولم تكتفي بالنقد الأجوف من بعيد، وهو نقد قليل الفائدة من الناحية العملية، ولا قيمة إنسانية له .
وبخصوص الحركة الجماهيرية المطلبية في البحرين : نحن لا ننكر حدوث بعض التجاوزات فيها، ولكن يجب أن نلاحظ :
· أنها قليلة جدا إذا قيست بحجم الظلم الذي تمارسه السلطة ضد المواطنين وانتهاكاتها الشنيعة لحقوقهم الطبيعية والوضعية . والتركيز على تجاوزات المستضعفين، وتجاهل ظلم السلطة وتسببها، ظلم بيّن بدون شك .
· ينبغي عدم تجاهل الدور المخابراتي الذي يقف وراء الكثير من الحوادث، وقد ثبت بالأدلة الحسية حصول ذلك .
· أن هذه التجاوزات هي من نتائج الفراغ الذي تركه تقصير القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني والخاصة أو النخبة من علماء الدين والمثقفين في مسؤولياتهم الدينية والوطنية، فينبغي لكل منصف أن يوجه اللوم لهؤلاء بشأن حصول التجاوزات أكثر من توجيهه للجماهير .
· لا ينبغي ممارسة النقد بالشكل الذي يؤدي إلى نصرة الظالم القوي على المظلوم المستضعف وخذلانه، فهو قبيح عقلا وشرعا ولا يقوم به أي عاقل شريف . علينا أن نراعي الله ذي الجلال والإكرام والعدل ومصالح العباد ـ لاسيما المستضعفين ـ وننظر إلى بعيد ونحسن التصرف من أجل حسن العاقبة، ولا نكون أسرى الهوى والشيطان والنفس الأمارة بالسوء والمصالح الدنيوية الفانية، فتسوء بذلك عاقبتنا والعياذ بالله .
المحور ( 4 ) اختلاف الخيارات في مناهج وأساليب العمل ..
قد يختلف المؤمنون والمواطنون الشرفاء في خياراتهم لمناهج وأساليب العمل وأدواته، وهنا يجب أن نلاحظ التالي ..
· يجب أن يتحمل كل واحد المسؤولية في اختيار المنهج أو الخط الذي يقتنع بواقعيته وصوابيته على أساس الكفاءة في ذات المنهج أو الخط، وعدم المجاملة في ذلك، لأنها خلاف منطق العقل والدين ومضيعة للمصالح العامة الحيوية والجوهرية للمواطنين .
· يحق لكل شخص طبيعي أو اعتباري التعبير عن خياره والدفاع عنه، ولا يعني ذلك التحارب والصراع بين الأطراف أو الأشخاص، وينبغي مراعاة الحكمة والقيم والمصالح العامة في إدارة الاختلاف .
· ينبغي الحذر من التوظيف السيء للدين للحجر على الاختلاف المشروع في الرأي والمواقف، لأنه بيع خسيس للدين بثمن بخس، ومضيع لقيم الدين والإنسانية، ومضر بمصالح الإنسان وواقعه .
· ينبغي السعي للتفاهم والتنسيق والتكامل في الأدوار، على قاعدة : كل يعمل من موقعه وبحسب قناعاته .
أيها الأحبة الأعزاء
أكتفي بهذا المقدار
واستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم
واعتذر لكم عن كل خطأ أو تقصير
واستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته