المجموعة القصصية - خيار التردد

بشائر النسيم الراحل

بشائر النسيم الراحل

إهداء

إلي أبناء دائرتي …
في المعامير والعكر والنويدرات وسند …
إلى أهالي البحرين الأعزاء ممن امتزجت أنفاسهم بالسموم والغازات، فأصبحوا ضحية الإهمال والتلكوء …

أهديهم جميعا كلماتي المتناثرة تقديرا لمعاناتهم ورغبة في أن تسجل هذه الكلمات موقفا في طريق أداء الواجب

إبراهيم حسين إسماعيل

ميساء ابنة الثامنة عشر ربيعا التي تنحدر من عائلة ثرية استطاعت رغم عيشتها الهانئة وحياتها الرغيدة أن تنسلخ من جلدها وتجفو سعادتها لتعيش وسط الكادحين وتحيا حياتهم وتعاني كما يعانون .

كانت ميساء فاتنة ، فارعة الطول ، رشيقة القوام جميلة المحيا .. ملاك يسحر من يراه ولوحة فنية يقف عندها المتأمل مذهولا ويزداد دهشة وعجبا كلما اقترب منها أو جمعت بها قضية أو تجد لها موقف .

تناقل أبناء القرية خبر هذا الملاك ، وراحوا جميعهم يضفون عليها من التقدير والتبجيل الكثير بأحاديث عنها هنا . ومواقف طيبة هناك كلها تفرز مجال بقائها بينهم ، وعباس زوجها الذي جاء بها من جنة الطامعين وطموح الراغبين في بذخ الحياة إلى خشن العيش وسط البسطاء والكادحين جعلها قبلته وقدامه الذي اختاره لنفسه وهو يباهي أهل القرية والأصدقاء متعارفا بحبها وتواصفها وقتا عنها بأن تعيش معه وهو ابن الكادح البسيط ، والأم التي لا تزال تحمل في ذاكرتها معاناة السنين الماضية لأهل قريتها وتصف طيبتهم وبطولاتهم وتنفى برجالاتهم الأقوياء الشجعان وتسردها وتكرها علي عباس باعتباره آخر العنقود الذي لم تشهدها أو يعاني منها ، فقد سمع عن تلك المآثر والمعاناة ولم يعايشها .
كانت أم إبراهيم دائما تحادث آخر العنقود ابنها عباس عن لطائف الماضي والذكريات وحياة الأسرة الواحدة حلوها ومرها وها قد اقتربت من الستين !!

ومع بزوغ الفجر وإشراقه يوم الخميس الجديد خاطبت أم إبراهيم ابنها عباس .. يا ولدي .. ما حال ميساء .. كيف صحتها اليوم !! أنني أراها هذه الأيام متعبة مكتئبة دائما تتألم وتعاني ولكنها صابرة لا تتكلم ، وكأنها ليست من بنات هذا الزمان ، زمانكم زمن الدلال والدلع ، اهتم بها يا عباس واعتني بها فهي بنت حلال طيبة وجميلة .
أماه .. أنني خائف على ميساء ، فقد ذهبت بالأمس معنا إلى الطبيب في المدينة وأخبرني بأن الوضع الصحي لميساء متدهورا ، وإنها والجنين في خطر ، وربما يرجع ذلك إلى الوضع الصحي في قريتنا .. تصوري أمه بأن ميساء ضحت من أجلي ، ورضيت بعشه الفقر والعوز ، وإذا بالزمان يصدمني بهذا الواقع المر ..
ميساء في خطر .. تصوري أماه حياتي بغيرها .. نفسي بعدها .. أني خائف يا أماه .. ميساء ملاك وجنة .. السعادة والجمال مع ميساء .. أماه أكاد أجن .. أكاد أجن .. لم أنم منذ ليلتين فميساء حبيبتي وفراقها عذاب مقيم لي.

لقد ذهبنا إلى الطبيب في زيارة عادية فقط للاطمئنان على وضع الجنين ، ولم يكن في تفكيرنا أو تصورنا أن ميساء قد تصاب بشيء ، تصوري أنهم يرفضون أن يقيموا بفحصها جميعا وربما عينات من أهل القرية .

لقد أفرز لنا هذا الجو الملوث العديد من المشاكل والأمراض وهو كما يقول الطبيب فإن ميساء ليست هي الحالة الوحيدة في القرية .
لماذا نعيش الظليمة ونصارع الأذى والمعاناة وما من مجيب .

-لقد حذر الطبيب من انتشار هذه الحالة فتصبح ظاهرة في قريتنا والقرى المجاورة نحن نعيش أجواء ملونة وخطيرة !!
-ماذا تقول يا عباس ..
-مرض خطير .. ماذا تقصد .. هل ستموت ميساء .. أجلس يا عباس وأخبرني ماذا حصل .. وهل عرفت ميساء بالخبر ؟
-لا ..لا .. لقد أخبرني الطبيب بمفردي بعدها خرجنا استدعاني لوحدي وقال لي الخبر ، وانه يرغب في متابعة هذه الحالة ، لأنها قضية خطيرة أصابت الوطن ولا بد من تشخيصها !! أماه أنت تعلمين أننا في قرية محاطة بالمصانع والتلوث فيها كبير .. وهناك إصابات عديدة في القرى المجاورة ، لذلك فالطبيب والمركز الصحي بالمنطقة يحاولون التعرف على أسباب هذه الظاهرة ، والوصول إلى الحالات المماثلة إن وجدت !!
ولدي عباس .. لابد أن تستدعي أخاها فاضل وتخبره بالموضوع فهذه حياه أو موت .. ولابد لأهلها أن يعلمون كل شيء عن بنتهم وإن كان أبوها ” سامحه الله ” ليس متعاونا معنا ..ولا يحب أن يزورها في قريتنا ألا أننا لابد وأن نحترم أبوته ونخبره بوضع بنته الصحي ، فربما رق قلبه ولان وساعدنا في أن نأخذها للخارج للعلاج .
أماه .. ميساء في الشهر الرابع ووضعها الصحي خطير ولا أستطيع أن أسافر بها الخارج الآن .

لماذا ..؟؟؟

لأنها أولا متعبة ، وثانيا ليس لدينا مال ، وهي رافضة أن تأخذ من أبيها شيء ، تريد أن تعيش بعيشتنا وتحيا حياتنا ، وتعاني كما يعاني الفقراء .

يا ولدي حياة ميساء في خطر ، لا تقف عند موضوع الرفض أو القبول ، فهي بنت طيبة ولا تدع طيبتها وبالا عليها .
والآن قم لزاما فهي يتيمة الأم ، فأم فاضل رحمها الله ، وليس لها أحد غيرنا اليوم ولا أعتقد أن زوجة أبيها مريم ستهتم بمرضها قم يا ولدي نذهب إليها ، وإن شاء الله يوفقنا رب العالمين لمساعدتنا وتجتاز الأزمة ويذهب الخطر عنها بدعاء المؤمنين وأهلي القرية الطيبين الذين يحبونها كثيرا ً .
سارع عباس الخطى وأمه تتبعه وهو يسمعون أنين خفيف ، تقدم عباس لفراش ميساء ، ورآها تتلوى وأثار الإعياء قد شوهدت ملامح جمالها ، وهي تومئ له ولعمتها أم إبراهيم بابتسامه رائقة برغم أنها باهته رائعة ولأنها من قلبها الرحيم المكلوم وأومأت ميساء لها وهي تتلفظ بصوت منخفض عباس ،، لا تتعب نفسك ، فأني راحلة عنكم ووافدة على كريم رحيم .. ادعوه أن يرحمني .. وعليكم بالمولود .. فإن كان ولدا سمة عليا ، برا بوالدي الذي جفاني ، وإن كانت بنتا فأسموها آمنة لآن أمك هي أمي رعتني وعوضتني عن فقدان حنان الأم وجفاء الأب ، فأم إبراهيم كانت مسحة الود والعطف والحنان في دنياي وآمل أن تكون كذلك لمولودي .

عباس .. اهتم بالمولود الجديد ، حتى لو اضطررتم أن تبقروا بطني فأنا قابلة ، المهم أن يبقى الجنين وترعاه أم إبراهيم .
الآن خذني للمستشفى فالألم فظيع ، فظيع ، فظيع .. ولابد من الاطمئنان على حالة الجنين وسلامته .
لا تخافي ولا تقلقي يا ميساء ، إنشاء الله تتماثلين للشفاء وتسعدين برؤية المولود ويعيش في أحضانك الدافئة وظلك الرحيم .
لا ..لا .. لا يا عباس أني راحلة عنكم قريبا ووصيتي المولود ن هذا القادم الجديد ، واسمحوا لي إن قصرت في حقكم أنت وأمك أم إبراهيم الغالية ، وأبلغوا سلامي لأبي وإخواني فاضل وجاسم وعبدالله ولا تنسوا خالتي زوجة أبي مريم أبلغوها سلامي ..

أماه .. أماه .. أستدعي أبو محمد حتى يأخذنا للمستشفى وأنا سأهيأ ميساء لنذهب معا .

سارعت الأم المسكينة أم إبراهيم مهرولة لجارهم أبو محمد وطلبت منه القدوم ، فبادر ملبيا الدعوة ، غادروا القرية ميساء وعباس وأم إبراهيم في سيارة أبو محمد وكانت الشمس لم تشرق بعد ..

اهدئي ميساء .. سترينهم جميعا ، فأنت ِ محبوبة الجميع حتى أبيكِ الذي جفاك يذكرك أمام أصدقائه بخير ويثني عليك ِ .. أنت لم تقصري يا ميساء في حق أحد أبدا ، ولم تقصري فقط .
الحمد لله .. هذا ما أرجوه ..
كانت ميساء متجلدة وهي تصارع الألم وتنازع الموت في لحظاتها الأخيرة وهي تقول : سامحوني ووصيتي المولود الجديد .

وصلت سيارة أبو محمد إلي بوابة الطوارئ واستقبلها رجال الطوارئ في برود ثقيل وهو يهرولون بها إلى غرفة الإنعاش التي لم تكاد تصل إليها حتى ساد صمت الاثنين ، ووقف حراك الألم ، فهم الجميع الصمت الرهيب وهم يعيشون أجواء رهبة الموت جبروته .
عندها انفجر عباس بالبكاء وألقى بنفسه على عزيزته قائلا : حبيبتي حياتي ميساء كلميني ، كلميني وأخذت أم إبراهيم تلطم رأسها وتنادي وا أبنتاه وا عزيزتاه وا حسرتاه على شبابك ثم ناجت ربها .

أي رب أرحمها ، وأجعل مولودها سلوى لنا ، وتخليدا طيبا لها .

سارع الأطباء لإنقاذ الجنين ولكن سرعان ما أكدوا أنه الآخر قد فارق الحياة .
وغابت ميساء عن الدنيا وغاب الأمل في بقاء ذلك المولود إنه بشائر النسيم الراحل الذي لم يدم طويلا وقيم الحزن والألم في أجواء القرية الحزينة التي انتقدت كيانا جميلا نتيجة للإهمال الفظيع ، وبقى سؤال حائر من أهل القرية مجلجلا متى الضحية الأخرى ؟! وهل ستدوم معاناتنا أبد الآبدين !!؟؟؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً

إغلاق