فهرس خطب الجمعة عام 2003

خطبة الجمعة بتاريخ 03-01-2003

نص الكلمة التي ألقاها الاستاذ بتاريخ 03 يناير 2003 م

الخطبة الدينية : لا يوجد عنوان
الخطبة السياسية : قضية أحداث الشغب والتخريب في شارعي المعارض والفاتح في الاحتفال برأس السنة الميلادية

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

أعوذ بالله السميع العليم من شر نفسي الأمارة بالسوء ومن شر الشيطان الغوي الرجيم

الحمد لله رب العالمين، اللهم صلي على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين، وأصحابه المنتجبين ومن اتبعه بإحسان إلى قيام يوم الدين.

السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أمير المؤمنين، السلام على فاطمة الزهراء سيدتي وسيدة نساء العالمين، السلام على خديجة الكبرى، السلام على الحسن و الحسين سيدي شباب أهل الجنة أجمعين، السلام على جميع الأوصياء، مصابيح الدجى، وأعلام الهدى، ومنار التقى، والعروة الوثقى، والحبل المتين، والصراط المستقيم، السلام على الخلف الصالح الحجة بن الحسن العسكري، روحي وأرواح المؤمنين لتراب مقدمه الفداء، السلام على جميع الأنبياء والأوصياء والعلماء والشهداء، السلام على شهداء الانتفاضة، السلام عليكم أيها الأحبة أيها الأخوة والأخوات في الله ورحمة الله وبركاته.

قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد } وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ { آمنا بالله صدق الله العلي العظيم. ( 105 ) سورة التوبة:

هذه الآية الشريفة المباركة، وهي الآية 105 من سورة التوبة، كثيراً ما نقرأها في افتتاح المشاريع و الفعاليات والأنشطة. هذه الآية فيها دعوة إلى العمل، و تنبه إلى أن العمل يكون تحت رقابة الله ورقابة الرسول ورقابة المؤمنين، وأن الله جل جلاله سوف يبعث الناس ويحاسبهم على أعمالهم يوم القيامة.

وقبل أن أدخل في مضامين ومطالب الآية الشريفة، أنبه إلى أن الآية تقوم على ثلاث ركائز أساسية .

الركيزة الأولى :

أن الله جل جلاله لم يخلق الدنيا عبثا ، وإنما خلقها من أجل هدف ، من أجل غاية ، وهذا يتطلب عدة أمور :

الأمر الأول :

العمل الجاد المثمر والمنتج في الحياة ، أن يعمل الإنسان في الحياة ،عملاً منتجاً نافعاً.

الأمر الثاني :

الإحساس بالمسئولية اتجاه العمل ، أن يعمل الإنسان العمل المسئول ، أن يكون مسئولاً في تفكيره ، ويكون مسئولاً في أقواله وأفعاله ، بحيث تتوجه الأفكار والأقوال والأعمال نحو تحقيق الهدف والغاية من وجود الإنسان ، وأن لا يحيد عن ذلك.

الأمر الثالث :

أن حلقة الهدفية ( لمّا قلنا بأن الحياة خلقت لهدف ) هذه الفكرة وهذه الحقيقة لا تكتمل إلا إذا قلنا بالبعث والحساب والجزاء يوم القيامة ، وأنه لا يمكن أن تكون هناك فاعلية وأثر للاعتقاد بهدفية الحياة ، ما لم يكن ذلك مصحوبا بالاعتقاد والحساب والجزاء يوم القيامة.

الركيزة الثانية :

أن الله عز وجل لم يخلق الإنسان من أجل الدنيا ، وإنما خلقه من أجل الآخرة . والحياة الآخرة تختلف عن الحياة الدنيا في عدة أمور ، أذكر منها ثلاثة أمور :

الأمر الأول :

أن الحياة الآخرة أكمل وأنضج وأرقى من الحياة الدنيا، ولهذا نجد أن القرآن الكريم عبر عنها بأنها الحيوان ، يعني الحياة الحقيقية ، والحياة الأنضج والأكمل والأرقى.

الأمر الثاني :

أن في الحياة الآخرة يكون هناك فصل في الحقائق وفصل القوى . فصل الحق عن الباطل ، والخير عن الشر ، والجمال عن القبح . فالجنة مثلا هي مظهر من مظاهر رضوان الله عز وجل ، وثواب الله ورحمته ، وهي أيضا دار الرحمة والأمن والمحبة والسلام ، وفيها يجمع الله أهل الحق وأهل الخير وأهل العدل والسلام ، وأصحاب العمل الصالح . بينما النار هي دار نقمة الله ومظهر لغضبه وعذابه ، وأنها بعيدة عن الأمن والسلام ، وأن الله يجمع فيها أهل الباطل وأهل الشر وأصحاب العمل السيئ ، أما هنا في الدنيا ، يجتمع أهل الباطل مع أهل الحق ، وأصحاب الخير مع أصحاب الشر ، وأصحاب العمل الصالح مع أصحاب العمل الطالح . هنا تختلط الأمور في الحياة الدنيا . أما في الآخرة فالأمر يختلف تماما ، حيث هناك عملية فرز أو فصل بين الحقائق والقوى ، ولا يوجد التقاء بينها كما أوضحت .

الركيزة الثالثة :

أن ذات الإنسان ذات عاقلة واعية ، وذات حرة ، وأن الإنسان من خلال عقله وحريته يصير نفسه ، أي يجعل نفسه إما ذاتا طيبة أو ذاتا خبيثة ، وأن ذلك يتوقف على عقيدته وعمله ، فالذات الطيبة تتوقف على العقيدة الصحيحة والعمل الصالح ، والذات الخبيثة تكون من خلال العقيدة الفاسدة أو العقيدة الباطلة ، والعمل السيئ ، وبهذه الذات يتحدد موقعه في يوم القيامة، فالذات الطيبة مكانها الجنة ، والذات الخبيثة مكانها النار، وأن الذات الطيبة لا تلتقي مع الذات الخبيثة يوم القيامة.

الخبيث والطيب يلتقيان في الدنيا ، أما في الآخرة لا يلتقي الخبيث مع الطيب.

قوله تعالى } وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ {.

هذه الآية تتناول مسألتين:

المسألة الأولى:

قوله تعالى } وَقُلِ اعْمَلُواْ { هذه فيها دعوة إلى العمل، ولها عدى دلالات:

الدلالة الأولى: أن الإسلام أو الدين هو عقيدة وعمل ، وأنه لا قيمة للعقيدة بدون العمل ، ففي الحديث : ( العلم يهتف بالعمل ، فإن أجابه وألا ارتحل ) . فلا قيمة للعقيدة بدون العمل .القرآن الكريم دائما يربط بين الإيمان والعمل الصالح } الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ { ، وأحاديث الرسول الأعظم ( ص ) والأئمة ( ع ) والقرآن الكريم : يحذرون من تحويل الدين والإيمان إلى ظاهرة كلامية .

قوله تعالى } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ { سورة الصف .

الدلالة الثانية :

أن العمل المطلوب والعمل الذي تحث عليه هذه الآية هو العمل الصالح وأن الدين بريء تماما من كل عمل سيئ، والعمل الصالح له شروط، أذكر منها ما يلي:

الشرط الأول : أن يأتي به العبد قربة لله تعالى .

الشرط الثاني : أن يكون وفقا لأحكام الله ولشريعة الله . فإذا التزم الإنسان بهذين الشرطين ينتج عن ذلك أن يكون العمل نافعا للفرد في جسمه وروحه ، في دينه ودنياه وآخرته ، وأن يكون صالحا للمجتمع، فيه تطهير للمجتمع من الفساد ، وفيه تنمية وتطور للمجتمع ، ولا يمكن أن يكون العمل الصالح مضر بالفرد في نفسه أو جسمه ، أو بالمجتمع بأي حال من الأحوال. وبالتالي فالعمل الصالح تكون له قيمة ، هذه القيمة تتمثل في إعطاء مصداقية للإيمان ، أن الإيمان يدعو إلى العمل ، فيكون الإيمان إيماناً صادقاً ، وأيضاً ينمي الفرد وينمي المجتمع .

الدلالة الثالثة: أن الإيمان والإسلام واقعيان . فكما أن القرآن والأحاديث الشريفة ، يحذران من تحويل الإيمان إلى ظاهرة كلامية ، فهما يحذران أيضا من الوقوف عند النوايا . بأن يتوقف الإنسان عند النوايا الطيبة ، ولا ينتقل إلى مرحلة العمل . ويمكن أن البعض يحتج بكلام الرسول الأعظم (ص) ، قوله (ص) : ( إنما الأعمال بالنيات ) . هذا الحديث لا يعني بأن الدين هو مجرد نوايا طيبة . طبعاً الحديث يعطي أهمية وقيمة كبيرة للنية الطيبة ، ولكن ذلك لا يعني أن يقف الإنسان عند حدود النوايا دون العمل ، وإنما يريد أن يقول بأن قيمة العمل بالنية الصالحة. وأن العمل قيمته في النية ، وليس معنى ذلك أن يقف الإنسان عند النوايا ويتوقف عن العمل . الإسلام يريد أن يتوجه الإنسان للعمل ، وألا يتوقف عند حدود الأمنيات ، لأنها لا تغني عن العمل . نعم قد تكون نية المؤمن أحياناً خير من عمله ، وذلك عندما تكون النية صالحة ، لدى الإنسان ولديه جاهزية ودافعية وتوجه حقيقي لإنجاز العمل ولكن جاءت عقبات وحالت بينه وبين العمل، فالله سبحانه وتعالى يجازيه ويثيبه على هذه النية. ولكن ليس معني ذلك أن القرآن أو الإسلام يريد أن يجعل الإنسان يتوقف عند حدود النيات بعيداً عن العمل . فالهدف إنما هي الأعمال .. يريد العمل ويقصد العمل لا أن نقف عند حدود النوايا.

المسألة الثانية :

قوله تعالى : } فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ { . وتتناول مسألة المراقبة والمحاسبة .

” فسيرى ” اللفظ يفيد التأكيد. ورؤية الله جل جلاله إلى العمل مسألة مفروغ منها ، والمقصود فيها أن الله يحيط بالعمل من جميع جوانبه ، يحيط بالعمل من حيث النية والقصد ، ومن حيث الدوافع ، ويحيط بالعمل من حيث الفعل ، ومن حيث النتائج ، وآثاره في الخارج في الحاضر والمستقبل . فالله جل جلاله لديه إحاطة كاملة بالعمل ، وهذا الشيء أمر طبيعي ومنطقي ، لأن الله جل جلاله كما خلق الإنسان ، فهو يخلق أيضاً أفعال الإنسان ، العمل هو خلق الله ، لأن الله هو خالق كل شيء ، وهو أعلم بما خلق .

قوله تعالى : } أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ { . (14) سورة الملك .

فما دام الله هو خالق العمل ، فهو أعلم بهذا العمل .

تبقى المسألة الثانية وهي مسألة علم الرسول والمؤمنين . وهذه لها أكثر من معنى ذكره علماء التفسير، أذكر منها معنيان :

المعنى الأول :

أن المقصود من علم الرسول وعلم المؤمنين، هو معرفتهم بالعمل الصالح وشروط قبول العمل ، وأن الرسول الأعظم (ص) يعلم بذلك من خلال الوحي ، أما المؤمنون فتأتي معرفتهم من خلال فقههم للوحي والقرآن ، وما يأتي به الرسول الأعظم (ص) ، وأهل البيت (ع) . فكل مؤمن حسب مقدار فهمه وحسب مقدار فقهه يعلم مدى صحة العمل ، وتوفره على شروط القبول ، وهذا يدل على أن العمل الصالح وقبوله ، يتوقف على أساس موضوعي خارجي . واستنادا إلى ذلك العلم ، يمارس الرسول (ص) والمؤمنون أدوارهم في التبليغ وهداية الناس وقيادة المجتمع ، وأيضاً يعد ذلك العلم أساسا في المعاملة ، التي يقيمها الرسول والمؤمنون في المجتمع الإسلامي ، وقد ذكر هذا المعنى عدد قليل من المفسرين ، منهم الشيخ محمد جواد مغنية والسيد قطب.

المعنى الثاني :

أن الرؤية هي الرؤية الحقيقية المعهودة ، يعني كما أراك وتراني ، فإن الرسول (ص) والمؤمنين يرون العمل بهذه الرؤية الحقيقية. ولكن أصحاب هذا الرأي ينقسمون إلى فريقين : الفريق الأول : يرى بأن الرؤيا تكون عن الطريق الطبيعي ، ولظاهر العمل . وأن الرسول الأعظم (ص) والمؤمنون يتحصلون على هذه الرؤيا ، من خلال قيامهم بعملية المتابعة إلى المجتمع المسلم وأوضاعه ، وقيامهم بدور القيادة والتوجيه لهذا المجتمع . وقد وجِّهت عدة إشكالات على هذا الرأي أذكر منها :

الإشكال الأول :

أنه إذا كانت الرؤية هي رؤية طبيعية ، وإلى ظاهر العمل وآثاره ونتائجه على المجتمع ، فهذه الرؤيا ليست خاصة بالمؤمنين ، وإنما كل فرد في المجتمع يستطيع أن يرى العمل ويرى نتائجه وآثاره في المجتمع، سواء كان هذا الإنسان مؤمنا أو منافقا أو كافرا ، وأصحاب هذا الرأي يردون على هذا الإشكال بقولهم : بأن الرؤية المعتبرة والتي يجب أن نوليها الأهمية هي رؤية المؤمنين ، وأما رؤية المنافقين والكافرين فلا اعتبار لها ولا قيمة لها ولا أهمية لها في المجتمع المسلم . ( هذه مجرد إشارة إلى الرأي ، ولا أريد الدخول في مناقشة التفاصيل ).

الإشكال الثاني :

وهو الأهم : أن الرؤية مطلقة ، بمعنى أن الرسول الأعظم ( ص ) والمؤمنون يرون كل الأعمال ، ولكل الناس . فكل عمل يعمله الإنسان ، سواء كان إنسانا مؤمنا أو منافقا أو كافرا ، فإن الله يعلم هذا العمل ، ويراه رسوله والمؤمنون . ونحن نعلم علم اليقين ، أنه بالضرورة ليس كل عمل يعمله الإنسان يظهر للناس ، فهناك أعمال تبقى سراً بين الإنسان وبين ربه ولا يعلمها أحد ، لا يعلمها الناس ولا المؤمنون ، فإذا كان المقصود هو العلم الطبيعي ، وأن كل عمل يظهر للناس عن هذا الطريق ، فإننا نعلم بالضرورة ، أنه ليس كل عمل يظهر للناس وينكشف لهم . وهناك أمر آخر : وهو أن التوجيه الرباني للإنسان المؤمن بأن يكتم ذنوبه ، فإذا كان هناك ذنب ، فتكليف الإنسان أن يكتم هذا الذنب ويتستر عليه ، وفي يوم القيامة ، فأن الله عز وجل يغفر الذنوب المستورة قبل الذنوب المعلنة ، ويعاقب على الذنوب المعلنة أكثر من الذنوب المستورة . وأيضا : المؤمنون مكلفون بكتمان أسرار الآخرين ، وعدم فضحها بين الناس . فعندما يطلع الإنسان على سر من إنسان مؤمن ، فتكليفه الشرعي أن يكتم هذا السر، وإذا كان هناك ذنب فليستر هذا الذنب ولا يكشفه للناس . وبالتالي فهذا القول أو الرأي يأتي بخلاف التوجيه الإسلامي بضرورة كتمان الأسرار والمحافظة على سريتها . ولهذا جاء الطرح الذي يراه الفريق الثاني .

الفريق الثاني :

يرى هذا الفريق بأن هذه الرؤيا تكون عن طريق التعليم الإلهي ، أي أن هذه الرؤيا عن طريق تعليم الله جل جلاله ، وأن هذه الرؤيا هي لظاهر العمل وحقيقته . فالمعلم هنا هو الله جل جلاله ، وهو الذي يطلع الرسول ويطلع هؤلاء المؤمنين على كل عمل ظاهره وباطنه ، فيطلعهم على حقيقة العمل في الحياة الدنيا .

ويرى هذا الفريق أن المقصود من المؤمنين ليس عامة المؤمنين ، وإنما هم الشهداء على الناس .

قوله تعالى : } فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا { (41) سورة النساء. فهؤلاء المؤمنون يطلعون على العمل في الحياة الدنيا ، ويشهدون عليه يوم القيامة ، وهم الأئمة (ع) . فهم يطّلعون على كافة الأعمال في الدنيا ، ويشهدون عليه في الآخرة.

الآية المباركة تنبهنا إلى أهمية الرقابة ، وأن الإحساس بالرقابة له دور في تعميق الإحساس بالمسؤولية ، وبالتالي تطهير العمل من الرياء ومن السمعة ، وهو العمل الذي يكون عليه الجزاء يوم القيامة. فالآية المباركة تنبهنا إلى أهمية الإحساس بالرقابة على العمل ، في سبيل تعميق الإحساس بالمسؤولية، فالإنسان يحاسب نفسه أكثر، وبالتالي ينتج عن هذه المحاسبة ، تطهير العمل ، فيكون خالصاً لوجه الله ، وبالتالي يثاب عليه يوم القيامة.

وبهذا نستطيع أن نستفيد من هذه الآية الدرس التالي:

أن كل إدارة تعمل على تغييب الرقابة أو إضعافها : إما أن تكون غير مطمئنة إلى كفاءتها في القيام بالمهمات الملقاة على عاتقها ، أو أنها تضمر نوايا سيئة بالاستغلال السيئ للوظيفة ، أو أنها تدعي الكمال والعصمة والاستقلالية المطلقة. وطبعا هذا الشيء لا يمكن أن يوجد في أي إدارة ، وبالتالي كل إدارة يجب أن تكون خاضعة للرقابة المحايدة ، من اجل تعميق إحساسها بالمسئولية أولا ، ومن اجل استقامة المؤسسة في عملها ، ومن أجل تطويرها وتحسين أدائها.

بعد هذا اذهب إلى أشكال مهم جداً حول الآية. إذا كنا نقول بأن الرؤيا هي بتعليم إلهي وأن الرسول والإمام يطلع على أعمال العباد كلها ظاهرها وباطنها.

فكيف يتأتى للرسول وللإمام ذلك وهو بشر؟

الجواب على ذلك:

أولاً : أن التعليم إلهي, وأنه بأمر الله. الله عز وجل وصف أمره:

بقوله تعالى : } وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ { (50) سورة القمر.

وبقوله : } إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ { (82) سورة يــس. ونحن اليوم من خلال التقدم العلمي نرى أن بعض الكمبيوترات الضخمة والأجهزة الراقية , تستطيع أن تقوم بالكثير من العمل في آن واحد. والله عز وجل الذي جعل هذا الخاصية في المادة، بأن تستوعب هذا الكم الهائل من المعلومات ,وتقوم بالعديد من الأعمال في وقت واحد!!

ألا يستطيع أن يجعل هذه الخاصية في قلب النبي وفي قلب الإمام ؟!! هل يعجز عن ذلك ؟ فإذا تأملنا التطور العلمي نجد أنه يعمل على تقريب الكثير من مفاهيم الغيب إلى الذهن .

ثانياً: أن هذه الحقيقة ( وهي رؤية النبي والإمام للأعمال ) هو جزء من تأهيل الله عز وجل للنبي والإمام للقيام بمهماتهم في التبليغ وفي هداية الناس وقيادة المجتمع . والمربي الذي يريد أن يأهل النبي والإمام هوالله جل جلاله , ولابد أن يكون التأهيل حسب حجم ونوعية الوظيفة. ولكي لا نستغرب، أقرب المفهوم. نحن نقرأ في القرآن عن سليمان (ع):

قوله تعالى : ( وقَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) (40) سورة النمل. هذا العبد الصالح كان مع سليمان في الشام، وعرش بلقيس في اليمن، وهذا العمل وهو نقل عرش بلقيس سالما من اليمن إلى الشام , يحتاج إلى إحاطة علمية ويحتاج إلى قدرة، فهو محيط علماً بمكان الكرسي وحقائقه، وهو قادر على أن ينقل الكرسي في سلام وأمان في طرفة عين. هذا جزء من التأهيل، فما هو الفرق بين رؤية الاعمال وهذا الفعل الذي هو جزء من التأهيل الرباني لعباده الصالحين وخلفائه في الارض . فكيف يكون علم الرسول الاعظم (ص) والخلفاء من بعده وتأهيلهم من قبل الله جل جلاله , وهم سادة الكون , فإذا دققنا نجد أن سلطة الرسول (ص) التي تدل عليها حادثة المعراج أعظم من هذه السلطة التي تبرز من خلال رؤية الأعمال. وعلينا أن نلاحظ كيف يأتي الله جل جلاله بالمعاجز على أيدي أنبيائه ورسله !! أنظروا كيف أخرج الله جل جلاله الناقة من الجبل ؟! هل هذا شئ سهل ؟؟! وانظروا كيف حول الله جل جلاله العصى إلى ثعبان ؟! وانظروا كيف أن عيسى (ع) يحيى الموتى ويبرى الأكمه والأبرص بأذن الله ؟! وانظروا كيف أن نبي الله سليمان (ع) يكلم النمل ويكلم الطير ويسخر الرياح بأذن الله ؟! هذا كله تأهيل من الله عز وجل في سبيل تمكين هذا الرسول أو الإمام من القيام بوظيفته , وبالتالي ليس بالشيء الكثير على الله أن يطلع النبي أو الإمام على أعمال العباد كلها وحقيقتها ليشهدوا عليها يوم القيامة , إذا كانت وظيفة الهداية تتوقف على ذلك .

القسم الثاني من الآية:

قوله تعالى: ( وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )

الآية الشريفة المباركة تخاطب الناس جميعًا, وتقول لهم: إن مسيرتكم في الحياة قد بدأت من الله, بخلق الله جل جلاله إليكم على وجه الأرض, وسخر لكم الكون من أجل أن تنتفعوا بما فيه في حياتكم, وبعث إليكم الأنبياء والرسل وأنزل عليكم الكتب السماوية من أجل هدايتكم, وأنكم ستموتون وتبعثون يوم القيامة, أي تعودون إلى الله جل جلاله وتقفون بين يديه للحساب والجزاء, فالموت ليس نهاية المطاف بالنسبة إليكم, لأنكم لن تخلقُوا لهذه الحياة الدنيا الفانية, وإنما خٌلقتم للخلود في الحياة الآخرة.

قوله تعالى : ( عالم الغيب والشهادة ) وهو الله رب العالمين .

الغيب: يعني ما يغيب عن إدراك الناس ومعرفتهم .

الشهادة : تعني ما يدخل تحت دائرة إدراك الناس ومعرفتهم.

ويطلق عالم الغيب في مقابل عالم الشهادة على عدة معاني, أذكر منها ما يلي:

المعنى الأول:

عالم الشهادة, يعني عالم الحياة الدنيا, في مقابل عالم الغيب الذي يعني عالم ما وراء الطبيعة مثل العقل والروح والملائكة.

المعنى الثاني:

عالم الشهادة, يعني عالم الحياة الدنيا, في مقابل عالم الغيب الذي يعني عالم البرزخ والقيامة.

المعنى الثالث:

يتعلق بالأعمال : عالم الشهادة يعني ظاهرة الأعمال ( صورتها ) والأعمال المعلنة, في مقابل باطن الأعمال ( حقيقتها ) وسرها, أي الأعمال المخفية ( السر ) .

والخلاصة:

أن علم الله جل جلاله محيط بكل شيء, ولا يخفى عن علمه شيء أبدًا.

قوله تعالى: ” وستردون إلى عالم الغيب والشهادة “.

الآية الشريفة المباركة لها ثلاث دلالات رئيسية, وهي :

الدلالة الأولى:

أن الحياة الدنيا ليست نهاية المطاف في سيرة الإنسان, أو رحلته في الوجود, فإنه لا بد أن يبعث يوم القيامة, للحساب والجزاء, وهذه هي الغاية من خلقه .

الدلالة الثانية:

أن الذي خلقه ودبر شؤونه في الحياة, والذي يبعثه يوم القيامة للحساب والجزاء, هو عالم بكل شيء, ولا يخفى عليه شيء أبدًا .

الدلالة الثالثة:

إن الخلق والتدبير, والبعث والحساب, كل ذلك قائم على العلم المطلق والقدرة المطلقة, وبالتالي فإن الجزاء قائم على العدل المطلق, وأنه بني على حقيقة العمل وليس ظاهرة .

قوله تعالى: ” فينبئكم بما كنتم تعملون ”

بمعنى : أن الله جل جلاله يوم تعودون إليه, ويوم وقوفكم بين يديه في يوم القيامة, يخبركم بحقيقة أعمالكم التي صدرت منكم في الحياة الدنيا .

وقوله تعالى: ” فينبئكم “.

هذا اللفظ يدل على ثلاثة أمور, وهي :

الأمر الأول :

أن الله جل جلاله يوقف الناس في يوم القيامة على حقيقة أعمالهم التي صدرت عنهم في الحياة الدنيا .

الأمر الثاني:

أن الله جل جلاله يحاسبهم على أعمالهم تلك .

الأمر الثالث:

أن الله جل جلاله يجازيهم على أعمالهم, جزاءً وفاقًا , أي مطابقا لأعمالهم, إن خيراً فخير, وإن شرا فشر .

أريد ونحن نعيش أجواء الآية الشريفة المباركة , أن ألخص الاستفادة منها في حياتنا العملية بالتالي : مطلوب منا أن نحدد أهدافنا بدقة متناهية , ونخطط لتحقيق هذه الأهداف بموضوعية وواقعية , ونحاول أن نتعرف على المشاكل والعقبات التي تقف في طريق أهدافنا , وأن نلتقي ونتحاور في سبيل ذلك كله ,و أن نعمل بجد وبمثابرة وأن نتوكل على الله , وأن نخلص إلى الله جل جلاله في أعمالنا وأهدافنا , وأن نطمئن بأن أهدافنا سوف تتحقق , وان لا نيأس , وان نعلم أن التخلي عن العمل والمطالبة بالحقوق ينتج شيئين : ينتج ذل الدنيا وخزي وعذاب الآخرة .

الحديث السياسي

بعد هذه الوقفة مع الايات الشريفة المباركة , آتي إلى الحديث عن الساحة الوطنية :

موضوع الحديث في هذا الاسبوع يدور حول قضية أحداث الشغب والتخريب في شارعي المعارض والفاتح في الاحتفال بمناسبة راس السنة الميلادية, وبكل صراحة وبكل وضوح: يجب أن ندين هذا العمل بغض النظر عن الطرف الذي نفذ هذا العمل , وبغض النظر عن الطرف الذي يقف وراءه. العمل يجب أن يدان, لان هذا العمل , عمل عبثي لا مبرر له أبدا , وانه مضر بالمصلحة وبالمسيرة الوطنية ,و انه مضر بسمعة شعب البحرين .

في البداية يجب أن نعرف أن هذا العمل قامت به فئة من المراهقين المستهترين, كما جاء على لسان كل من تكلم أو كتب في الموضوع, مما يدل على حجم ونوعية الفراغ الفكري والروحي والأخلاقي الذي يعاني منه هذا الشباب, وبالتالي يسلط الضوء على حجم ونوعية تقصير علماء الدين والمؤسسات الدينية والمؤسسات التعليمية و التربوية في إرشاد وتوجيه وقيادة هؤلاء الشباب. ويسلط الضوء أيضا على بعض التوجهات في المؤسسات التربوية والتعليمية و الإعلامية, التي تحاول أن تروج إلى الفكر والقيم والسلوك الغربي والحضارة الغربية على حساب الفكر والقيم والسلوك الإسلامي والحضارة الإسلامية .وأيضا تسلط الضوء على عملية الإفساد الاجتماعي والاخلاقي النوعي و المبرمج في الوطن. وأيضا هذه الحادثة كما تسلط الضوء على الفراغ الفكري والروحي لهؤلاء الشباب ,فإنها أيضا تسلط الضوء على الفراغ في الوقت ,أي تسلط الضوء على خطورة مشكلة البطالة ومما تتركه من فراغ وطاقات معطلة ومحبوسة في حياة هؤلاء الشباب , وتبحث عن متنفس لها , و تسلط الضوء على خطورة تدني الأجور و مستوى المعيشة عند الناس , والتي خلقت لهم مشاكل اجتماعية ومشاكل أخلاقية .الخلاصة اننا نجد في هذه الحادثة , تفاعل بين إفرازات ونتائج الفراغ الفكري والروحي والأخلاقي , وبين إفرازات و نتائج الفراغ في الوقت , أي البطالة وتدني مستوى المعيشة . وعلى كل طرف أن يتحمل مسئوليته . الحكومة تتحمل مسئوليتها اتجاه حل مشكلة البطالة , وتتحمل مسؤليتها اتجاه هذا الفراغ الفكري والروحي والأخلاقي كما تتحمله أيضا المؤسسات الدينية والتعليمية والتربوية والإعلامية .

الموضوع يحتاج إلى وقت أطول ,واستميحكم عذرا للتطويل .

دعونا نصف الحدث : نر أن الحدث كان بمناسبة الاحتفال براس السنة الجديدة الميلادية , وهذه ليست السنة الأولى التي يحدث فيها مثل هذا العمل، ولكن هذه المرة بحجم اكبر ونوعية تختلف . وأما الجهة التي نفذته –مثلما نقل عن وسائل الإعلام – هم شباب مراهقون و مستهترون , وأن هؤلاء اعتدوا على الأملاك العامة والخاصة , واعتدوا على الفنادق ,وكان سلوكهم بعيدا عن الدين و بعيدا عن القانون و بعيدا عن عادات وتقاليد البلد. فما هي الجهة المسئولة عن ذلك ؟ طبعا هناك فرق بين الجهة المنفذة والجهة التي تقف وراء هذا العمل , و هناك أربع اطروحات :

الطرح الأول:

يقول بان الحدث جاء بصورة عفوية , على يد شباب مستهتر , تعودوا أن يتجمعوا كل عام بصورة عفوية, ويمارسوا مثل هذا العمل .

الكثير من المراقبين بما فيهم الصحفيين ورجال الإعلام المحلي ,اجمعوا على أن هذا الطرح غير صحيح ,و أن الحالة العفوية مستبعدة واستدلوا على ذلك بأمرين :

أولا: حجم العدد: أنور عبد الرحمن قال: العدد يزيد على 2000 شخص, وأسند هذا التقدير إلى مصادر أمنية.

ثانياً: نوعية وسرعة التحرك: أن هؤلاء الشباب كانوا يتحركون بسرعة وفي جماعات, مما يدل على أنهم لم يكونوا في صورة عفوية.

الطرح الثاني :

حمل المخابرات المسئولية , ويقول أصحاب هذا الطرح , بان المخابرات هي المسئولة عن هذا الحدث , ويستدلون على ذلك بتباطؤ رجال الشرطة والشغب في التعامل مع الحدث من بدايته , لاسيما وأن الحكومة توقعت من خلال التجربة السابقة مثل هذا العمل, واستعدت إليه مسبقا من خلال حشد بعض رجال الأمن , فهناك علم واستعداد ولكن هناك تأخر في التعامل أو التدخل في الحدث . وأما عن الهدف فهو قطع الطريق على الحركة المطلبية والمسيرات السلمية التي تقوم بها المعارضة في سبيل تحقيق أهدافها, وسوف اوضح ذلك بالتفصيل في حديث لاحق إنشاء الله تعالى .

الطرح الثالث:

أن المعارضة هي المسئولة : هناك أطراف تحمل المعارضة المسئولية , ولكن عندما نرجع إلى الحدث نفسه وحيثياته , نستطيع أن نبرئ طرفين بصورة يقينية وبصورة قطعية من هذه المسئولية، وهما : التيار الإسلامي بشقيه الشيعي السني، والحركة المطلبية. هذان الطرفان بريئان 100% من هذا الحدث، ولا يمكن تحميلهما مسؤلية ذلك , وإنما هناك خلط في الاوراق , أو سوء في النوايا.

الطرح الرابع :

إن هناك أطراف خفية غير معروفة الهوية, وغير معروفة الأشخاص، تدعو إلى العنف والعودة إلى المربع رقم واحد. ونحن لا نعرف هذه الأطراف,و لا نعرف هؤلاء الأشخاص , وقد ذكرت في حديث سابق أن هذا الطرح خطير جدا و مرفوض من قبل كافة الرموز الإسلامية والوطنية , ومرفوض من قبل كافة القوى السياسية المعروفة التي تعمل تحت ضوء الشمس , وانه مضر بالمسيرة الوطنية المباركة , وانه يقطع الطريق على الحركة المطلبية لتحقيق أهدافها المشروعة .

فهذا الحدث مدان بغض النظر عن الطرف الذي نفذه, والطرف الذي يقف وراءه. وأقول بأننا مثلما نحن مصرين على التقدم بالبلد والاستمرار في الحركة المطلبية من اجل تطويره, فنحن ملتزمون أيضا بأمنه واستقراره.

وبعد هذا الالتزام والإدانة, ينبغي التحذير، بل يجب التحذير من خلط الأوراق ومحاولة الربط بين الممارسات السلمية في الحركة المطلبية, وبين هذه الأعمال التخريبية التي تخالف الدين والقانون والعادات والتقاليد, من أجل الاساءة إلى المعارضة وقطع الطريق عليها, لتحقيق أهدافها الوطنية المشروعة. ينبغي التحذير بكل قوة, ولكل جهة ولكل طرف. أقول بأن المجلس المنتخب معني بهذا التحذير. وليعلم الجميع بان أي قانون يحاول أن يخلط الأوراق ويقطع الطريق على الحركة المطلبية السلمية المشروعة لن يحترم,, كل قانون يخلط الأوراق ويحاول قطع الطريق على الحركة المطلبية السلمية المشروعة لن يحترم .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

بتاريخ 1/ ذو القعدة /1423هـ – الموافق 3 / 1 / 2003 م
في مسجد الشيخ خلف في قرية النويدرات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.