محاضرات وندوات عام 2006

كلمة الخميس (7 ) بعنوان : أضواء من سورة التكاثر

الموضوع : كلمة للأستاذ عبد الوهاب حسين .
العنوان : أضواء من سورة التكاثر .
المكان : مسجد الشيخ خلف ـ قرية النويدرات .
اليوم : الخميس .
الوقت : بعد صلاة الظهرين .
التاريخ : 3 / جمادى الآخرة / 1427هـ .
الموافق : 26 / مايو ـ آيار / 2006م .
ملاحظة : ألقيت خلاصة الكلمة ( فقط ) فوق المنبر .

أعوذ بالله السميع العليم ، من شر نفسي الأمارة بالسوء ، ومن شر الشيطان الرجيم .
بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله رب العالمين .

اللهم صل علي محمد وآل محمد ، وارحمنا بمحمد وآل محمد ، وأهدي قلوبنا بمحمد وآل محمد ، وعرف بيننا وبين محمد وآل محمد ، وأجمع بيننا وبين محمد وآل محمد ، ولا تفرق بيننا وبين محمد وآل محمد طرفة عين أبدا في الدنيا والآخرة يا كريم .
اللهم معهم .. معهم .. لا مع أعدائهم .

السلام عليكم أيها الأحبة ، أيها الأخوة والأخوات في الله ، ورحمة الله تعالى وبركاته .

قال الله تعالى : { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ . حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ . كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ . ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ . كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ . لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ . ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ . ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } ( سورة التكاثر ) .

معاني المفردات :
ألهاكم : شغلكم وصرفكم عما هو أهم إليكم .
التكاثر : التباهي بمتاع الدنيا وزينتها وزخرفها ، والمفاخرة بالسلطة والقوة والنفوذ وكثرة المال والرجال والتغالب على جمعها .
المقابر : مكان دفن الموتى .
كلا : حرف ردع وزجر .
علم اليقين : العلم القطعي عن دليل صحيح .
عين اليقين : العلم عن رؤية ومشاهدة .
النعيم : ما استمتع به من طيب العيش وحسن الحال أو ما أنعم به من رزق ومال وغيره .

أيها الأحبة الأعزاء : تتضمن السورة الشريفة المباركة ثلاثة محاور رئيسية .. وهي :

المحور الأول ـ ظاهرة التلهي عند الإنسان في الحياة :

قول الله تعالى : { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } .

تتناول هذه الفقرة من الآية الشريفـة المباركة : ظاهرة التلهي عند بعض البشر في الحياة الدنيا ، وهم أصحاب التوجهات المادية والفهم السطحي للحياة وصغار النفوس ، الذين تشغلهم الأمور الصغيرة عن الأهداف والمهام والمسؤوليات الكبيرة في الحياة . غافلين عن حقيقـة أنفسهم ، وحقيقـة الكون والحياة ، ومسؤوليتهم الحقيقيـة : العظيمة والمقدسة في الحياة ، والمصير الذي ينتظرهم بعد الموت { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } ( الروم : 7 ) .

نعم : لقد شغلهم التباهي بمتاع الدنيا الفانية وزخرفها وزينتها ، والتفاخر بالسلطة والقوة والجاه والنفوذ والرمزية ، وكثرة المال والأولاد والرجال .. والانتصارات الوهمية ، عن الأمور المهمة لهم ( حقيقة ) في الحياة : كمعرفة الحق والواجبات : العامة والخاصة وطاعـة اللـه ( جل جلالـه ) والتفكير في أمور الآخرة ، والتنمية الحقيقية الشاملـة : الماديـة والمعنوية للحياة ، وفعل الخيـر والعمل الصالـح ، الذي ينفعهم في تنميـة الحياة الدنيـا ، ويبقى لهـم ثوابـه في الآخرة . فنشروا بذلـك الظلـم والفساد والتخلف والاستبداد في الأرض ، وزرعوا الحروب والصراعات والعداوة بين الناس في الحياة .

قال الله تعالى : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } ( الروم : 41 ) .

أيها الأحبة الأعزاء : إنني أجد في التوجهات المادية والانشغال بالأمور الصغيرة على حساب الأمور والمهام والمسؤوليات الكبيرة في الحياة ، هدر لكرامة الإنسان ، وتضييع لقيمته ومكانته ورسالته في الحياة . لأن قيمة الإنسان بكمال فكـره وصفاته وتوجهاته وعمله النافع في الحياة ، وليس بمظهره وكثرة أمواله وأولاده وقوته المادية ، فكلها أمور شكلية تنتهي إلى الفناء ، ولا علاقة لها بجوهر الإنسان ورسالته الخالدة في الحياة .

قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ” ابن آدم أشبه شيء بالمعيار : إما ناقص بجهل ، أو راجح بعلم ” ( تحف العقول . ص 150 ) .

وهذا السلوك الجاهلي المتخلف : لا يـدل على شعور أصحابـه بالعزة والكرامة والقيمة العالية للنفس الإنسانية ، وإنما يدل على شعورهم بالحقارة والدونية والضياع في الحياة .

يقول الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ” ما من رجـل تكبـر أو تجبـر إلا لذلـة وجدها في نفسه ” ( أصول الكافي . ج2 . ص 312 . الحديث 17 ) .

قول الله تعالى : { حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } له معنيين لدى علماء التفسير .. وهما :

المعنى الأول ـ وافاكم الموت : أي شغلكم التكاثر طول حياتكم ، ولم تستفيقوا من غفلتكم حتى أنقضت أعماركم ووفاكم هادم اللذات : الموت ، وأنتم على تلك الحال من الغفلة والضلال والاتجاه المادي والفهم السطحي للحياة .. بدون توبة . فلم تستخدموا عقولكم التي منحكم الله الكريم إياهـا ، ولـم تسمعوا للرسل الذين بعثهم الله الجليل إليكم مبشرين ومنذرين . مضيعين أعماركم في طلب الدنيا الفانية ، معرضين عما يهمكم من السعي لأخراكم الباقية .. ودفنتم مذمومين في القبور ، وفـرق بينكـم وبين الأموال والأولاد والقوة والرجال { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ } حيث لا تنفعكم هذه الأمور بعد الموت بشيء { يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } .

روى مسلم في صحيحـه : أن الرسول الأعظم الأكـرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قـال : ” يقول ابن آدم : مالي مالي !! ومالك من مالك ، إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت ” ( مجمع البيان : ج10 . ص812 ) .

المعنى الثاني ـ ذهبتم إلى المقابر : أي ألهاكم التباهي بالكم وبكثرة المال والعدد من الرجال بعيدا عن المضمون ، وبعيدا عن تدبر الأمور الأهم في الحياة ، وعن التفكير في أمور الآخرة ، حتى وصل بكم الحال ( خارج حدود المعقول ) أن ذهبتم إلى المقابر لتعدوا الأموات في القبور لتتكاثروا وتتفاخروا بهم ، وهم فاقدون للإحساس والقوة ، ولم يعد لهم أي أثر عملي في الحياة .. وهـو سلوك جاهلي متخلف فاقد للقيمة الإنسانية والعملية وبعيد كل البعد عن منطق العقلاء.

قيل في أسباب نزول السورة : أن قبيلتين .. وهما : بنو عبد مناف بن قصي ، وبنو سهم بن عمر ، تكاثروا وتفاخروا بكثرة الرجال .. كل قبيلة تقول : نحن أكثر رجالا ، فعدوا الأحياء من رجالهم ، فكثر بنو عبد مناف على بنو سهم .. فقال بنو سهم : نعد موتانا وموتاكم ، فذهبوا إلى قبور موتاهـم يعدونهـم ليتكاثروا بهـم .. فيقولـون : هذا قبر فلان ، وهذا قبر فلان ، فكثـر بنو سهم على بنو عبد مناف ، لأنهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية .

أيها الأحبة الأعزاء : لقد ذكر القرآن الكريم هذا السلوك الجاهلي المتخلف غير المعقول تهكما به بالقائمين عليه ، حيث كانوا يجمعون الأرقام مهما كانت ، بقطع النظر عن فاعليتها وحيويتها وحركتها وقيمتها في الواقع . وعلينا أن لا نقف عند حدود المصداق الذي ذكرته السورة الشريفة المباركة ، من زيارة أولئك المتخلفين لقبور موتاهم ليتكاثروا بهم ، وإنما ينبغي علينا تعميم المبدأ الذي أراده القرآن الكريم على كافـة الصور والمصاديق الأخرى في الحياة .. لنستفيد فعلا من الدرس القرآني العميق كما يريد منا الرب الجليل في الحياة .

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) بعد قراءة سورة التكاثر في خطبة طويلة .. منها : ” يا له مراما ( مرادا ) ما أبعده ، وزورا ما أغفله ، وخطرا ما أفظعه ! لقد استخلوا ( وجدوا الديار خالية ) منهم أي مدكر ( الاعتبار ) وتناوشوهم ( تناولوهم ) من مكان بعيد . أبمصارع آبائهم يفخرون ؟! أو بعديد الهلكى يتكاثرون ؟! يرتجون منهم أجسادا خوت ( خلت ) وحركات سكنت ، ولأن يكونوا عبرا ، أحق من أن يكونوا مفتخرا ، ولأن يهبطوا بهم جناب ذلة أحجي ( أقرب للصواب ) من أن يقوموا بهم مقام عزة . لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة ( ضعف البصر ) وضربوا منهم في غمرة ( حيرة ) جهالة . ولو استنطقوا عنهم عرصات تلك الديار الخاوية ، والربوع الخالية ، لقالت ذهبوا في الأرض ضلالا ، وذهبتم في أعقابهم جهالا ” ( نهج البلاغة . الخطبة : 219 ) .

يقول العلامة السيد فضل الله : ” إنها العقلية المتخلفة التي تبحث عن الكم ولا تبحث عن الكيف ، فترى في تكاثر الأرقام العددية قيمة وميزة عن الآخرين . ولكن الله لا يريد لهم ذلك ، لأن القيمة كل القيمة ، هي في ما يقدمه الناس على مستوى الفرد أو الجماعة من أعمال صالحة كثيرة ، لتكون الكثرة مشتملة على المضمون الرسالي الذي يغني تجربة الحياة في حركة المسؤولية التي تبني للإنسان قاعدته الفكرية والعملية على أساس من رسالة الله المتحركة في خط طاعته ، بينما تكون الكثرة الفارغة من المضمون أو المشتملة على المعنى الشرير ، عبئا على الحياة ، وسببا لسقوطها في مهاوي الانحطاط الروحي والأخلاقي ” ( من وحي القرآن . ج 24 . ص 393 ) .

وقـال : ” ينبغي للإنسان العاقـل الواعي أن يلتزم كخـط لحركـة القيمة الإنسانية في الحياة ، بأن ينظر إلى عمق المعنى الإنساني ، لا إلى السطح من مظاهره ، لأن القضية هي قضية المضمون لا قضية الشكل ، ولأن العظمة في الحق مهما كان حجمه صغيرا في مقابل الباطل ، حتى لو كان حجمه كبيرا ، فـإن العظيم هـو ما عظمه الله ، والحقير ما حقره ” ( نفس المصدر . ص 394 ) .

الدرس المستخلص : وعليه ينبغي أن يتجنب المؤمنون وكافـة العقلاء كل السلوكيات الجاهلية التي تقف عند حدود الكم والشكل ، وتتجاهل الكيف والمضمون والفاعلية في تقييم الأمور . فزيارة القبور لعد الأموات للتكاثر والتفاخر بهـم ، هـو مجرد مصداق لمفهوم أشمل في الحياة لدى كثير من الناس ، حيـث يغيب العقـل والمروءة والدين ، ويظهر إتباع الهوى والنفس الأمارة بالسـوء والشيطان والعـادات والتقاليـد والعصبيات الجاهليـة المتخلفـة في تقييـم الأمور ، ولهذا المفهوم مصاديق كثيرة في سلوك الكثير من الحكام والسياسيين والمثقفين ودعاة المدنية والحضارة في تاريخنا المعاصر . فنحن نستهجن ( تقليديا ) السلوك غير العقلائي والفاقد للمروءة والدين للبخلاء ، الذين يجمعون المال ، ولا ينفقونه على أنفسهم وعيالهم ، فيعيشون الفقر والحرمان في الحياة رغم امتلاكهم للمال والثروة .

يقول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ” عجبت للشقي البخيـل ، يتعجل الفقـر الذي منـه هرب ، ويفوتـه الغنى الذي إياه طلب ، فيعيش في الدنيا عيشة الفقراء ، ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء ” ( البحار . ج78 . ص94 ) .

وقال الإمام الرضا ( عليه السلام ) : ” إياكم والبخل ، فإنها عاهة لا تكون في حر ولا مؤمن .. إنها خلاف الإيمان ” ( البحار . ج 78 . ص346 ) .

وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ” البخل جامع لمساوئ العيوب ، وهو زمام يقاد به إلى كل سوء ” ( البحار . ج73 . ص 307 ) .

ولكن أيها الأحبة الأعزاء : السلوكيات القبيحة الفاقدة للعقل والمروءة والدين كثيرة في واقعنا المعاصر المتمدن ظاهرا .. منها على سبيل المثال : الجشع في جمع الثروة والمال بغير حدود .. فأنتم تعلمون : بأن للإحساس بالمتعة واللذة والنشوة عند الإنسان حدود لا يمكن أن يتعداها في المعاشرة الجنسية وفيما يأكل ويشرب ويلبس ويسكن ويركب . ومع ذلك نجد بعض من يستولي عليهم الجشع في تاريخنا المعاصر المتمدن ظاهرا ، يسترسلون في جمع الثروات بحدود غير معقولة ، لا تخرج عن حدود حاجتهم فحسب ، بل تخرج عن درجة إحساسهم باللذة والمتعة بها ، وتدخل في حلقة الفراغ من الإحساس والعبث الذي لا قيمة عملية له في الحياة ، ويمتنعون عن أعمال الخير ومساعدة الناس ، من أجل التباهي والتفاخر بكثرة المال والثروة .. وربما أوصي بعضهم بثروته إلى كلب !!

قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ( التوبة : 34 ) .

وأقبح من ذلـك : أن ينهب بعض الحكام خيرات شعوبهم بغير وجه حق ، ويجمعون الثروة بصور وأوجه غير معقولة ، إلى الحدود التي يخرج فيها توظيف الثروة عن درجة إحساسهم باللذة والمتعة بها ، وتدخل في حلقة الفراغ من الإحساس والعبث الذي لا قيمة عملية له في الحياة .. وذلك كله : من أجل التباهي والتفاخر بالثروة ، وربما أنفقوا الكثير من ثرواتهم في أمور سخيفة لا قيمة عمليـة لها في تنمية الحياة والآخرة ، في الوقت الذي تعاني شعوبهـم من الفقـر والمرض والجهـل والحرمان من المقومات الأساسية في الحيـاة .. كما هو الحال عندنـا هنـا في البحرين . وهذا لا يدل على عدم الإحساس بالمسؤولية العامة وعدم الصلاحية للحكم فحسب ، بل يدل على الفقر في الشعور والقيمة الإنسانية .. لأن : الشعور بآلام الآخرين ، شرط من شروط الشعور بالكرامة والقيمة الإنسانية لدى أي الإنسان على وجه الأرض .

قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في عهـده إلى الأشتر : ” وأشعر قلبـك الرحمة للرعيـة ، والمحبة لهم ، واللطف بهم ، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم .. فإنهم صنفان : إما أخ لك في الدين ، أو نظير لك في الخلق ” ( نهج البلاغة . كتاب 53 ) .

وقال ( عليه السلام ) : ” وإنما يـؤتى خـراب الأرض مـن إعـواز أهلهـا ( ظهور الحاجة والفقر فيهم ) وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع ( تطلع أنفسهم إلى جمع المال ) وسوء ظنهم بالبقاء ، وقلة انتفاعهم بالعبر ” ( نفس المصدر ) .

المحور الثاني ـ النهي عن التلهي وعلة النهي :

قول الله تعالى : { كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ . ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ . كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ . لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ . ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ } .

القرآن الكريم يرفض العبث والتوجهات المادية والفهم السطحي للإنسان في الحياة ، كما يرفض الانشغال بالأمور الصغيرة والتافهة ، على حساب الأمور الكبيـرة والمهمة في الحياة .. وذلك : لأن الإنسان والحياة لم يخلقا عبثا ، وإنما خلقا لغاية اقتضتها حكمة الرب الجليل ، وسوف يسأل الإنسان في يوم القيامة عن الطريق الذي انتهجه في الحياة الدنيا ، وعن كل أعماله التي عملها : صغيرها وكبيرها .. وعلى هذا الأساس المتين : جاء النهي والزجر عن الانشغال بالدنيا عن الآخرة .

قول الله تعالى : { كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ . ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ } .

ارتدعوا أيها اللاهون : فليس الأمر كما ترون أو تظنون ، فإن هذه الحياة ليست نهاية المطاف في مسيرتكم ، وأن هناك حياة غير حياتكم هذه ، وإن لكم مستقبل ينتظركم فيها .. وسوف تعلمون في يوم القيامة : أن الأمر الذي ينبغي أن ينشغل فيه الإنسان ويفكر به أكثر هو عالم الآخرة والتسابق في الطاعة لله ( جل جلاله ) وعمل الخير لكسب رضاه ، وليس الاستغراق في الأمور التافهة ، والتهالك على الدنيا وزخارفها الفانية وعرضها الزائل ، بما يبعدكم عن اللـه ( جل جلاله ) والقيام بواجباتكم الشرعية والإنسانية .. وسوف تعلمون هناك : أن مصير الإنسان يتحدد من خلال طبيعة عمله ، وأن عاقبة تباهيكم بالسلطة والجاه والنفوذ في الحياة الدنيا ، وتفاخركم بكثرة المال والأولاد والقوة والرجال وتغالبكم عليها ، واتخاذها هدفا لكم في الحياة على حساب واجباتكم الدينية والإنسانية .. سوف ينتهي إلى سوء . وسوف تعلمون : أن مـا رزقتـم بـه في الحياة الدنيا ، من الأموال والأولاد والقوة والنفوذ والسلطـة ، إنما هي نعمة الرب الجليل عليكم ، لتسلكوا بها طريق الكمال والخير والسعادة في الحياة ، وفق منهج الإسلام العظيم ، الذي حدد للإنسان كيف يكسب القوة والمال الحلال من كد اليمين ، وكيف ينفقهما ويتصرف فيهما لخير الدنيا والآخرة . وسوف تندمون على أعمالكم المتخلفة غير المنطقية تلك ، وتصرفاتكم الجاهلية المجانبة للعقل والدين والمروءة ، ولكن لن ينفعكم الندم يومئذ .. فقد ذهب وقت العمل وحل وقت الجزاء .

قول الله تعالى : { كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ . لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ . ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ } .

ارتدعوا أيهـا اللاهون : فإنكم لـو تدبرتم ( بحسب ما فطرتم عليه ) في أنفسكم والكون والحياة ، وبحثتم عن الحقيقة فيها ، لوجدتم الأدلة القاطعة التي تمنحكم اليقين الذي لا شك فيه ولا ريب ، على أنكم مخلوقون لـرب جليل حكيم قادر على كل شيء ، ولغاية اقتضتها حكمته البالغة . وأنكـم مبعوثون في يـوم القيامة ومسؤولون عـن الطريق الذي تسلكونه في الحياة ، وعن كافة أعمالكم فيها : صغيرها وكبيرها . ولتشخص لديكم وأنتم في عالم الدنيا ( بالدليل الصحيح القاطع ) وجود الجنة والنار والثواب والعقاب في الآخرة .. ولو فعلتم ذلك : لارتدعتم ، ولما غرتكم هذه الحياة الدنيا الفانية والتغالب عليها ، ولأعطيتم الآخرة حقها ، وتصرفتم بحكمة ، وفعلتم ما هو خير لكم وأجدى وأصلح لدينكم ودنياكم وآخرتكم وظاهركم وباطنكم . فانظروا في أنفسكم والكون والحياة نظرة تمحيص وبحث عن الحقيقة ، واردعوا أنفسكم عن هذا العبث والوهـم الباطل والتفاخر الكاذب والانتصارات الوهمية والتوجهات المادية والاهتمامات الصغيرة والتافهة على حساب المهام والمسؤوليات الكبيرة في الحياة .. فإن ذلك كله : مجانب لحقيقـة أنفسكم ولحقيقة الكون وللطريق الصائب والتوجهات الصائبة في الحياة .

ارتدعوا أيهـا اللاهون : فأنا الرب الجليل أخبركـم وأقسم إليكم ، بأن النار حقيقة عينية موجودة في الخارج ، وأنكم سوف تقفون عليها ، وترونها بأعينكم رؤية مشاهدة حقيقية محسوسة ، وتدخلونها وتذوقون عذابها في يوم القيامة . فاجعلوا ذلك حاضرا في أذهانكم لعله يردعكم عن غيكم وضلالكم ، ولا تنسوه أبدا ولا تتجاهلوه ، فلن ينفعكم النسيان والتجاهل ، ولن يغيرا شيئا من الواقع العيني ( وجود جهنم ) والمستقبل الأسود الذي ينتظركم فيها .

يقول الشيخ جواد مغنية : ” لو كنتم تعلمون علما قاطعا مآل المتكاثرين لارتدعتم عن التكاثر والتفاخر ، وفيه إيماء إلى أن العلم بلا عمل هـو والجهل سواء ” .
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ” العلم يهتف بالعمل ، فإن أجابه وإلا ارتحل عنه ” .
( الكاشف . ج7 . ص604 ) .

لماذا التهديد بالجحيم ( النار ) : من الملفت للنظر التهديد الرباني بالجحيم في السورة الشريفة المباركة ، وعدم ذكر الثواب في الجنة .. وفيه دلالة : على أن للخوف من العقاب تأثير أكبر من الرغبة في الثواب لردع المجرمين بل أغلب الناس عن الجريمة .. أما الدليل على ذلك : فهـو التزام معظم المسلمين بعمل الواجبات الدينية وتركهم المحرمات ، وتقصيرهم في عمل المستحبات وترك المكروهات ـ رغم وجود الثواب العظيم على ذلك ـ وذلك لأن : ترك الواجبات وعمل المحرمات يؤدي إلى العقاب ، أما عمل المستحبات وترك المكروهات ففيه المزيد من الثواب ، مما يثبت أن للخوف من العقاب تأثير أكبر من الرغبة في الثواب لدى غالبية الناس .. ولهذا تم التركيز على عذاب جهنم للردع عن التلهي في الحياة .

المحور الثالث ـ مسؤولية النعيم ودوره في حياة الإنسان :

قول الله تعالى : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } .

ذكر علماء التفسير معنيين للنعيم في الآية الشريفة المباركة .. وهما :

المعنى الأول ـ نعيم الدنيا : الأموال والأولاد والقوة والنفوذ والسلطة التي يتكاثر بها أربابها بلسان الحال والمقال ويتصارعون على تحصيلها .. فهـم مسؤولون عنها أمام اللـه ( جل جلاله ) في يوم القيامة .
من أين اكتسبوها ؟
هل اكتسبوها بالحلال : من كد اليمين وعرق الجبين ؟
أم اكتسبوها بالحرام : من السلب والنهب والعنف والإرهاب ، وغيرها من الأساليب غير المشروعة ؟
وفي أي شيء أنفقوها وتصرفوا بها ؟
هل جعلوها سببا للهداية والإصلاح وأعمار الأرض ، وأدوا حق الله ( جل جلاله ) وحق العباد فيها ، وعملوا بأحكام الله ( جل جلاله ) في الاستفادة منها والتمتع بها ؟
أم جعلوها أداة للضلال والفساد والظلم والطغيان وخانـوا اللـه ( عز وجل ) وخانوا العباد فيها ؟

وأيضا الصحة والأمن وجميع الملاذ والطيبات من الرزق التي تفضل الله ( جل جلاله ) بها على الناس .. سوف يسألون عنها ويحاسبون عن كيفية استعمالها وتوجيهها في الحياة .

قال بعض المفسرين : يسأل جميع المكلفين عن كـل ما أنعم اللـه ( عز وجل ) بـه عليهم ، إلا ما خصه الحديث عن الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالاستثناء .. وهـو : ” ثلاث لا يسأل عنها العبد : خرقـة يواري بها عورتـه ، أو كسرة يسد بها جوعتـه ، أو بيت يكنه من الحر والبرد ” ( مجمع البيان . ج10 . ص 813 ) .

وقال البعض الآخر : أن الخطاب مخصوص بالكفار وبمن عكف همتـه على استيفاء اللذات ، ولم يعش إلا ليأكل ويشرب ويلبس ويضيع أوقاته باللهو والطرب واللعب ، ولا يعبأ بالعلم وفعل الخير والعمل الصالح ، ولا يحمل نفسه مشاق الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عـن المنكر والذود عن الحقوق والحرمات . أما من اكتسب نعم الله ( تبارك وتعالى ) وتمتع بها بالحلال ، وتقوى بها على طاعة الله ( عز وجل ) وكان ناهضا بالشكر له عليها بجميع الوجوه .. فإنه بمعزل عن السؤال .

قال الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ” من قرأ سورة التكاثر لم يحاسبه الله تعالى بالنعم الذي أنعم به عليه في دار الدنيا وأعطي من الأجر كأنما قرأ ألف آية ” ( تفسير أبي السعود . ج9 . ص 196 ) .

يقول العلامة السيد الطباطبائي : ” ظاهر السياق أن هذا الخطاب وكذلك الخطابات المتقدمة في السورة للناس بما أن فيهم من اشتغل بنعمة ربه عـن ربه فأنساه التكاثر فيها عن ذكر الله ، وما في السورة من التوبيخ والتهديد متوجه إلى عامة الناس ظاهرا واقع على طائفة خاصة منهم حقيقة .. وهم الذين ألهاهم التكاثر .
وكذا ظاهر السياق أن المراد بالنعيم مطلقه ، وهو كل ما يصدق عليه أنه نعمة ، فالإنسان مسؤول عن كل نعمة انعم الله بها عليه .
وذلك أن النعمة ـ وهي الأمر الذي يلائم المنعم عليه ويتضمن له نوعا من الخير والنفع ـ إنما تكون نعمة بالنسبة إلى المنعم عليه ، إذا استعملها بحيث يسعد بها فينتفع ، وأما لو استعملها على خلاف ذلك ، كانت نقمة بالنسبة إليه ، وإن كانت نعمة بالنظر إلى نفسها .
وقد خلق الله تعالى الإنسان وجعل غاية خلقه التي هي سعادته ومنتهى كماله التقرب العبودي إليه .. كما قال { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } ( الذاريات : 56 ) وهي الولاية الإلهية لعبده ، وقد هيأ الله سبحانه له كل ما يسعده وينتفع به في سلوكه نحو الغاية التي خلق لها .. وهي النعم ، فأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة .
فاستعمال هذه النعم على نحو يرتضيه الله وينتهي بالإنسان إلى غايته المطلوبة هو الطريق إلى بلوغ الغاية وهو الطاعة ، واستعمالها بالجمود عليها ونسيان ما وراءها غي وضلال وانقطاع عن الغاية وهو المعصية ، وقد قضى سبحانه قضاء لا يرد ولا يبدل أن يرجع الإنسان إليه فيسأله عن عمله فيحاسبه ويجزيه ، وعمله هو استعماله للنعم الإلهية .. قال تعالى : { وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى . وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى . ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى . وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى } ( النجم : 39 ـ 42 ) فالسؤال عن عمل العبد سؤال النعيم كيف استعمله : أشكر النعمة أم كفرها ؟ ” ( الميزان . ج20 . ص 352 ـ 353) .

المعنى الثاني ـ ولاية أهل البيت ( عليهم السلام ) : وهـي أعظم نعمة أنعم اللـه ( جل جلاله ) بها على الإنسان في الحياة ، فهم سبيل الهداية والطاعة والإيمان ، والتي لا يمكن أن تحصل إلا بولايتهم ( عليهم السلام ) وهـم قرنـاء القرآن ( كما يدل على ذلك حديث الثقلين ) والسبيل إلى معرفة الطريق التي حددها الله ( جل جلاله ) لتصرف العباد في النعم التي أنعم بها عليهم في الحياة .. فسؤال العباد عن ولايتهم ( عليهم السلام ) يأتي في مقدمة السؤال عن النعم التي أنعم الله ( جل جلاله ) بها على العباد في الحياة .
فسوف يسأل العباد عن أهل البيت ( عليه السلام ) في يوم القيامة :
هل والوهم واتبعوهم وأحبوهم ونصروهم ؟
أم خالفوهم وأبغضوهم وقتلوهم ؟

سأل الإمام الصادق (عليه السلام) أبا حنيفة عن هذه الآية فقال : ” ما النعيم عندك يا نعمان ؟
قال أبو حنيفة : القوت من الطعام والماء البارد .
فقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ” لئن أوقفك الله يوم القيامة بين يديه حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها وشربة شربتها ، ليطولن وقوفك بين يديه !! ” .
قال أبو حنيفة : فما النعيم جعلت فداك ؟
فقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ” نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد ، وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين ، وبنا ألف الله بين قلوبهم وجعلهم أخوانا بعد أن كانوا أعداء ، وبنا هداهم الله للإسلام .. وهي النعمة التي لا تنقطع ، والله سائلهم عن حق النعيم الذي أنعم الله به عليهم ، وهو النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعترته ” .
( مجمع البيان . ج10 . ص813 ) .

عن أبي خالد الكابلي قال : دخلت على أبي جعفر ( عليه السلام ) فدعا بالغذاء فأكلت معه طعاما ما أكلت طعاما أطيب منه قط ولا ألطف ، فلما فرغنا من الطعام قال : يا أبا خالد ! كيف رأيت طعامك ؟ أو قال : طعامنا ؟ قلت : جعلت فداك ما أكلت طعاما أطيب منه قط ولا ألطف ولكن ذكرت الآية التي في كتاب الله ( عز وجل ) { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : ” إنما يسألكم عما أنتم عليه من الحق ”
( الميزان . ج 20 . ص 353 ) .

وفي رواية أبي حمزة : ” إن الله ( عز وجل ) أكرم وأجل أن يطعم طعاما فيسوغكموه ثم يسألكم عنه ، إنما يسألكم عما أنعم عليكم بمحمد وآل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) “
( نفس المصدر . ص 354 ) .

يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي : ” من كل هذه الروايات ـ التي يبدو أنها مختلفة في الظاهر ـ نفهـم أن النعيم لـه معنى واسع جدا يشمل كل المواهب الإلهية المعنوية منها مثل : الدين والإيمان والإسلام والقرآن والولاية ، وأنواع النعم المادية الفردية منها والاجتماعية . بيد أن النعم التي لها أهمية أكبر مثل : نعمة ( الإيمان والولاية ) يسأل عنها أكثر . هل أدى الإنسان حقها أم لا ؟ والروايات التي تنفي شمول الآية للنعم المادية يظهـر أنهـا تريـد أن تقول : لا ينبغي أن نترك المصاديق الأهم للآية ونتمسك بالمصاديق الأصغر . إنـه تحذير ـ في الواقع ـ إلى الناس بشأن سلسلة مراتب المواهب والنعم الإلهية ، وبأنهم يتحملون إزاءها مسؤولية ثقيلة ” ( الأمثل . ج20 . ص 387 ) .

ويقول العلامة الطباطبائي : ” إن هذه النعم لو سئل عن شيء منها فليست يسأل عنها بما أنها لحم أو خبز أو تمر أو ماء بارد أو أنها سمع أو بصر أو يد أو رجل مثلا ، وإنما يسأل عنها بما أنها نعمة خلقها الله للإنسان وأوقعها في طريق كماله والحصول على التقرب العبودي .. كما تقدمت الإشارة إليه وندبه إلى أن يستعملها شكرا لا كفرا .
فالمسؤل عنها هي النعمة بما أنها نعمة ، ومن المعلوم أن الدال على نعيمية النعم وكيفية استعماله شكرا والمبين لذلك كله هو الدين الذي جاء به النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ونصب لبيانه الأئمة من أهل بيته ، فالسؤال عن النعيم مرجعه السؤال عن العمل بالدين في كل حركة وسكون ، ومن المعلوم أيضا أن السؤال عن النعيم الذي هو الدين ، سؤال عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والأئمة من بعده ، الذين افترض الله طاعتهم وأوجب أتباعهم في السلوك إلى الله الذي طريقه استعمال النعم .. كما بينه الرسول والأئمة ” .
( الميزان . ج20 . ص 354 ) .

أيها الأحبة الأعزاء : إن لهذه السورة الشريفة المباركة إيقاع رهيب وعميق يهز كيان الإنسان من أعماق الأعماق . فنحن نسمع فيها صرخات ربانية مجلجلة تقشعر لهول وقعها القلوب والأبدان ، فيها حسرة عظيمة على العباد { يا حسرة على العباد } تريد أن توقظهم من نومتهم التي فيها حتفهم ونهايتهم المشؤومة .

يقول العلامة السيد قطب : ” أيها السادرون المخمورون ، أيها اللاهون المتكاثرون بالأموال والأولاد وأغراض الحياة وانتم مفارقون ، أيها المخدوعون بما أنتم فيه عما يليه . أيها التاركون ما تتكاثرون فيه وتتفاخرون إلى حفرة ضيقة لا تكاثر فيها ولا تفاخر .. استيقظوا وانظروا ” ( الظلال . ج6 . ص3962 ) .

أيها الأحبة الأعزاء : كأن الرب الجليل يقول في حسرة : ماذا أصنع لكم يا عبادي حتى تستيقظوا من نومكم ، وتعملوا عقولكم ، وتسمعوا للرسل الذين بعثتهم إليكـم مبشرين ومنذرين . انتبهوا من نومتكم ، وانظروا إلى المصير الأسود الذي ينتظركم ، فقد منحتكم العقول التي تفكرون بها ، وبعثت إليكم بالرسل مبشرين ومنذرين ، ومنحتكم بمقتضى حكمتي البالغة حريـة الاختيار وتقرير المصير ، ولـم أجبركم على الهداية أو الضلال ، ليهلـك من هلـك منكم عن بينـة ، ويحي من حيي منكم عن بينة .. فاحذروا أيها الناس وانتبهوا .

قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ” إن الله ( عز وجل ) ركب في الملائكة عقلا بلا شهوة ، وركب في البهائم شهوة بلا عقل ، وركب في بني آدم كلتيهما ، فمن غلب عقله شهوته ، فهو خير من الملائكة ، ومن غلب شهوته عقله ، فهو شر من البهائم ” .
( ميزان الحكمة . ج 1 . ص 362 ) .

يقول العلامة السيد قطب : ” إنها سورة تعبر بذاتها عن ذاتها ، وتلقي في الحس ما تلقي بمعناها وإيقاعها ، وتدع القلب مثقلا مشغولا بهم الآخرة عن سفساف الحياة الدنيا وصغائر اهتماماتها التي يهش لها الفارغون !
إنها تصور الحياة الدنيا كالومضة الخاطفة في الشريط الطويل .. ” ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر ” .. وتنتهي ومضة الحياة الدنيا وتنطوي صفحتها الصغيرة .. ثم يمتد الزمن بعد ذلك وتمتد الأثقال ، ويقوم الأداء التعبيري ذاته بهذا الإيحاء . فتتسق الحقيقة مع النسق التعبيري الفريد ..
وما يقرأ الإنسان هذه السورة الجليلة الرهيبة العميقة ، بإيقاعها الصاعدة الذاهبة في الفضاء إلى بعيد في مطلعها ، الرصينة الذاهبة إلى القرار العميق في نهايتها .. حتى يشعر بثقل ما على عاتقه من أعقاب هذه الحياة الوامضة التي يحياها على الأرض ، ثم يحمل ما يحمل منها ويمضي مثقلا في الطريق !
ثم ينشىء يحاسب نفسه على الصغير والزهيد !!! ” ( الظلال . ج6 . ص 3963 ) .

أيها الأحبة الأعزاء : في ختام الحديث حول هذه السورة الشريفة المباركة ، أرغب في ذكر نقطتين ذاتا علاقة بولاية أهل البيت ( عليهم السلام ) .. وهما :

النقطة الأولى : أن ولايـة أهـل البيت ( عليهم السلام ) تعني فيمـا تعني ثلاثة أمور أساسية .. وهي :

الأمر الأول ـ الاهتداء إلى الصراط المستقيم : وهو الصراط الذي ذكره الله ( تبارك وتعالى ) في قوله : { وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ( الأنعام : 153 ) وقوله تعالى : { اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيـمَ . صِـرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمـتَ عَلَيهِمْ غَيـرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } ( الفاتحة : 6 ـ 7 ) ودل عليه حديث الثقلين . قول الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ” إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود بين السماء والأرض ، وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ” ( صحيح الترمذي . ج2 . ص308 ) .

الأمر الثاني والثالث ـ الحصول على الدين الكامل وصيانته : ويدل عليه قول الله ( تبارك وتعالى ) بعد أن بلغ الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بولاية أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في حديث الغدير بخـم : { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَـلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُـمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } ( المائدة : 3 ) فالديـن الكامل لا يمكـن الحصول عليـه ولا تمكن صيانته إلا بولايـة الإمام علي بن أبي طالب وولاية الأئمة الأحد عشر من ولده ( عليهم السلام ) . وبالاهتداء إلى الصراط المستقيم ، والحصول على الدين الكامل وصيانته ، تتم النعمة العظمى من الله ( جل جلاله ) على العباد ، وتتحصل حقيقة الإسلام وغايته ، وبه يسلك الإنسان طريق الهداية والسعادة والفضيلة والكمال ، وتستقيم الحياة وتتوازن وتطهر الأرض من الرذيلة والفساد ويظهر العدل بين الناس .

النقطة الثانية : التحذير من خط بدأ ينمو في الساحة الإسلامية ، وترتكز حركته على أربعة أمور أساسية .. وهي :

الأمر الأول : الدعوة إلى الثقافة الغربية والتبشير بالديمقراطية الأمريكية ، والاجتهاد في رفع كل تعارض بين الثقافتين : الغربية والإسلامية ، وإزاحة كل حاجز نفسي بينهما .

الأمر الثاني : الدعوة إلى القومية والطائفية على حساب الوحدة الإسلامية ، ويقوم سماسرتها من المنتسبين إلى الطائفتين الكريمتين والقوميات المختلفة في البلاد الإسلامية ، بتعميق الحس الطائفي والقومي بين أبناء المسلمين .

الأمر الثالث : ضرب الحس الجهادي المقاوم لـدى أبناء الإسلام الغيارى على دينهـم وأمتهم وأوطانهم ، والمجاهديـن ضد المحتلين والمستكبرين والمستبدين أعـداء الديـن والإنسانيـة .. تحت عناوين براقة مثل : المحافظـة على السلـم ومكافحة العنف والإرهاب .. ويزعمون كاذبين : أن ذلك هو جوهر الإسلام الحنيف .

الأمر الرابع : ضرب خط ولاية الفقيه وخط العلماء الملتزمين في الساحة الإسلامية ، تحت عناوين براقة .. مثل : الحرية والديمقراطية .

أيها الأحبة الأعزاء : تمسكوا بحقائق الدين المحمدي الأصيل وخذوه من المصادر الموثوق بها ، واحذروا من التمسك بالصور والقشور على حساب الحقيقة والمضمون ، واحذروا السيئين على دينكم وأوطانكم ، فلا يغرروا بكم من خلال زخرف القول وبهرجة الكلام ، ليصرفوكم عن الحق والصراط المستقيم في الحياة ، فتكونوا من الخاسرين والعياذ بالله العظيم من ذلك .

أيها الأحبة الأعزاء
أكتفي بهذا المقدار
واستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم
واستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.