فهرس خطب الجمعة عام 2002

خطبة الجمعة بتاريخ 27-12-2002

نص الكلمة التي ألقاها الاستاذ بتاريخ 27 ديسمبر 2002 م

الخطبة الدينية : الاستعانة بالظالمين في مواجهة الحق – رؤية قرآنية
الخطبة السياسية : الضربة الأمريكية للعراق

( أنا أنصح .. أنا الصغير .. أنا الحقير .. أنصح الحكومات والشعوب أن يتحملوا مسئولياتهم .. وأن يفكروا بجد بحجم المسئولية الملاقاة على عاتقهم ، وأن يتصرفوا بمسئولية تجاه ، وأقول بكل وضوح : أن الحكومات تمادت وتجاوزت الحد ، والخطوط الحمراء ، وأن الشعوب لابد أن تنتفض ، وتنتقم لكرامتها )
( ذكرت بأن قضية فلسطين هي المسائل التي سوف تصطدم فيها الشعوب مع الحكومات العربية ، والشعوب العربية سوف تنتقم لكرامتها ، وسوف تواجه هذا الاستعمار الجديد إما اليوم أو غدا ، كما واجهت في السابق الاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي ، وهذه المواجهة المرتقبة مع الاستعمار ، سوف تسيء إلى علاقة الشعوب مع الأنظمة ، مع كون المواجهة لا تستهدف الأنظمة ، وكون الشعوب لا ترغب بالمواجهة مع أنظمتها ، هذه حقيقة إن لم نراها اليوم سوف نراها غد )

( مع كون الشعب العراقي لا يحب أمريكا ، فهو أبي ولا يقبل باحتلال أرضه ، لكن لأن نظامه وحكومته أذاقته العذاب ، وهو يريد التخلص من هذا النظام ، فهو إن لم يساعد أمريكا على إسقاط النظام ، فسوف يسكت حتى يسقط هذا النظام ، وبعد ذلك يفكر كيف يدبر أمره مع أمريكا وغير أمريكا ، هذا هو تفكير الشعب العراقي ، وهذه المشكلة ليست مشكلة الشعب العراقي فقط ، بل هي مشكلة الشعوب العربية والإسلامية كلها مع أنظمتها وحكوماتها )
( إن نسينا حقوقنا المنتقصه ، وقبلنا بالظلم والاستبداد ، لنحل مشكلتنا ونواجه العدو الخارجي ، فما النتيجة ؟!! النتيجة المزيد من التخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي ، النتيجة أن الاستعمار حل على أرضنا ، النتيجة أن العدو الصهيوني يزيدنا كل يوم ذلا وهوانا ، حتى وصل الأمر أن مؤتمراتنا أعداؤنا يحددون برنامج عملنا فيها ، وما ينبغي لنا أن نناقشه ، وما النتائج التي نخرج بها !! )
( أنتم تعرفون أن أمريكا حرضت صدام على الحرب ضد الجمهورية الإسلامية في إيران ، وأمدته بكل سلاح حتى السلاح المحرم ، وغضت النظر عن كل جرائمه تجاه شعبه ، وتجاه الجمهورية الإسلامية في إيران حينما استخدم السلاح المحرم دوليا ، وشجعت كل دول العالم على مده بالسلاح ، وضغطت عليهم لكي لا يتحدثوا عن جرائمه ، ضد شعبه وضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية في ذلك الوقت ، ومن الذين ساعدوا صدام أيضا دول الخليج ، وما أن توقفت الحرب ، وبعد فترة وجيرة ، هجم صدام على دولة الكويت ، ثم جاءت أمريكا وأخرجته منها ، وأبقت قواتها في الكويت وفي المنطقة ، وهي الآن تريد أن تسقط نظام صدام بعد أن أمدته بالسلاح ، وهكذا يتضح لنا كيف ينتقم الله من الظالمين بالظالمين )

أعوذ بالله السميع العليم من شر نفسي و من سوء عملي و من شر الشيطان الغوي الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، اللهم صل على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين ومن اتبعه بإحسان إلى قيام يوم الدين ، السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أمير المؤمنين ، السلام على فاطمة الزهراء سيدتي وسيدة نساء العالمين ، السلام على خديجة الكبرى ، السلام على الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة ، السلام على جميع الأوصياء ، مصابيح الدجى ، وأعلام الهدى ، ومنار التقى ، والعروة الوثقى ، والحبل المتين والصراط المستقيم ، السلام على الخلف الصالح الحجة بن الحسن العسكري روحي وأرواح المؤمنين لتراب مقدمه الفداء ، السلام على العلماء والشهداء ، السلام على شهداء الانتفاضة ، السلام عليكم أيها الأحبة ، أيها الأخوة والأخوات في الله ورحمة الله وبركاته .

قال تعالى : ( أمَّنْ هذا الذي هو جند لكم ، ينصركم من دون الرحمن ، إن الكافرين إلا في غرور * أمَّنْ هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه ، بل لجوا في عتو ونفور * أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى ، أمن يمشي سويا على صراط مستقيم * ) صدق الله العلي العظيم . ( 20 – 22 من سورة تبارك )

موضع ابتلاء

الآيات الثلاث الشريفة المباركة تعالج مسألة في غاية الأهمية ، وهي من المسائل موضع الابتلاء للحكومات والشعوب على مر التاريخ ، وهي مسألة الاستعانة بغير الله ، والآيات الشريفة المباركة تبين بأن الاستعانة بغير الله ، ليست غير قادرة على حل المشكلة فقط ، وإنما تسعى لتعقيدها .

يتكررون

قوله تعالى : ( أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن ، إن الكافرين إلا في غرور * ) هذه الآية الشريفة المباركة تخاطب طرفا أو جماعة أو فريقا من الناس ، هؤلاء يتكررون في كل زمان ، في أكثر من بقعة من بقاع الأرض ، وهم يتصفون بعدة صفات كما يفهم من سياق الآية :

هؤلاء …

الصفة الأولى : أن هؤلاء يتصفون بمخالفة الحق ، والاعتداء على العدل ، والابتعاد عن الخير والسلام ، أي يتصفون بمخالفة المنهج الصحيح في الحياة ، والانحراف في السلوك .

الصفة الثانية : أن هؤلاء في حالة مجابهة ومواجهة وصراع وحرب مع قوى الحق والخير والعدل والسلام .

الصفة الثالثة : أن هؤلاء يستعينون بقوى أخرى تشاركهم نفس المنهج ، سواء كانت هذه القوى داخلية أو خارجية .

الآية الشريفة المباركة تخلص إلى نتيجتين مهمتين ، وهي :

النتيجة الأولى : أن هؤلاء في حرب مع الله والله في حرب معهم .

النتيجة الثانية : أن هؤلاء لن يفلحوا ولن يفوزوا بخير ، ولن يصلوا إلى أهدافهم ومآربهم ومقاصدهم في الحياة .

معاني الجند

قوله تعالى : ( أمن هذا الذي هو جند لكم ) كلمة الجند لها عدة معاني :

المعنى الأول : أن كلمة الجند في الأصل تعني الأرض الوعرة القوية ، التي تكثر فيها الصخور .

المعنى الثاني : وقد استعير من المعنى الأصل ، وأطلقت على العسكر والجيش كثير على العدد .

المعنى الثالث : أن كلمة الجند تطلق على الأعوان والأنصار .

هذه الآية تستبطن سؤالا إنكاريا ، له ثلاث دلالات :

تقريع .. تحقير

الدلالة الأولى : أن السؤال فيه توبيخ وتقريع لهذا الطرف الذي يتصف بالصفات السابقة ، وهو من تخاطبه الآيات .

الدلالة الثالنية : أن هذه القوى التي عبر عنها القرآن بالجند ، والتي يستعين بها هذا الطرف ، في محاربة الله عز وجل ، ومحاربة قوى الحق والعدل والخير ، هذه القوى غير قادرة على أن تحقق له هذه الأهداف ، ولن تستطيع تحقيق النصر ، أو منع العذاب والانتقام الإلهي منه .

الدلالة الثالثة : أن السؤال فيه دلالة على التحقير ( أمن هذا الذي هو جند لكم !! ) أي أن هؤلاء الجند الذين تستعينون بهم ، وقد جعلتم منهم كبارا في أعينكم ، هم حقراء عند الله ، وفي قباله وجنبه ، وهو العزيز الجبار المتكبر المنتقم القوي المتين ، جبار السماوات والأرض ، فكل قوى تكبر في عيونكم هي حقيرة أمام الله عز وجل ، وغير قادرة على مجابهة ومحاربة الله ، ولا يمكن لها أن تحقق نصرا ، تغلب به الله ، أو تدفع نقمة الله أو عذابه عنكم .

إذا أراد الله بكم

قوله تعالى : ( ينصركم من دون الرحمن ) الآية الشريفة المباركة ترتبط بالآيات السابقة لها . قوله تعالى : ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض ، فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا ، فستعلمون كيف كان نذير * ) هذه الآية فيها تخويف وتهديد لهذا الطرف ، وتتساءل في استنكار وتوبيخ وتقريع لهذا الطرف ، هل هؤلاء الجند ، وهذه القوى العظمى التي تستعينون بها ، قادرة أن تحقق النصر لكم في حربكم مع الله عز وجل ؟!! وإذا أراد الله أن ينزل بكم العقاب والعذاب ، أو أراد أن ينتقم منكم .. هل هؤلاء الجند يستطيعون دفع العذاب عنكم ؟ّ!! إذا أراد أن يخسف بكم الأرض ، أو يرسل عليكم الريح العاصفة المحملة بالحجارة ، هل يستطيع هؤلاء الجند منع هذا العذاب أو أي عذاب آخر يقدِّره الله لكم ؟!! الآية تقول .. لا .. هذا الجند مهما عظم في أعينكم ، غير قادر أن يحقق لكم أي نصر أمام الله ، وغير قادر على أن يدفع عنكم أي عذاب من الله .

تتحول إلى وبال عليكم

قوله تعالى : ( من دون الرحمن ) هذا اللفظ له دلالة كبيرة ومهمة جدا ، فالله عز وجل هو القوى والمتين والقادر والقهار ، ولكنه في نفس الوقت هو رحمن رحيم ، وهو ينبه هذا الطرف إلى أن هذه القوى التي يستعين بها ، ليست عندها رحمة الله عزو جل ، ولا تؤمن بمبادئ وقيم ، ولهذا يمكن لهذه القوى التي بستعين بها هذا الطرف ، أن تتحول إلى وبال ونقمة عليه ، وإذا رجعنا للتاريخ ، وسألنا أنفسنا هذا السؤال : كم من طاغية قتل على يد أقرب الناس إليه ؟!! كم من نظام أسقط عن طريق الجحافل أو الأحباش أو القوى التي أراد أن يحتمي بها ؟!! إذن .. هذه الآية تبين لنا كيف ينتقم الله من الظالمين بالظالمين ، وهذا لا يتعلق بالتاريخ البعيد ، بل انظروا حتى للتاريخ المعاصر ، لتروا كيف ينتقم الله من الظالمين بالظالمين ، وهنا نستطيع أن نخلص إلى ثلاثة دروس ومطالب من الآية :

دورس مهمة

الدرس الأول : أن يحكم الحكام بمنهج الله وشريعته .

الدرس الثاني : أن يقوم الحكام بالقسط والعدل بين الناس ، وينشروا الخير والسلام والمحبة بينهم .

الدرس الثالث : أن يعتمد الحكام على شعوبهم ، ولا يعتمدوا على القوى الأجنبية . وبالطبع .. لا يستطيعون أن يعتمدوا على الشعوب إلا إذا أنصفوها ، وأقاموا منهج الله ، وحكموا بالقسط والعدل .

قوله تعالى : ( أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه ، بل لجوا في عتو ونفور ) الرزق هو : كل ما ينتفع به ، ويطلق أيضا على العطاء والمكرمة والخير ، ومعنى قوله يرزقكم ، أي يتكفل بإيصال الرزق إليكم .

نظرة عميقة

الآية الشريفة المباركة تعالج مسألة الرزق بنظرة بعيدة وعميقة وواسعة ، أكثر مما تبدو في النظرة البسيطة والسطحية للآية ، فهي تفلسف مسألة الرزق ، وتعالجها بنظرة فلسفية ، وفق نظرة كونية وجودية أصيلة ، ويمكن تلخيصها في نقطتين :

الرزق أصل وجودي

النقطة الأولى : أن مسألة الرزق لها أصل وجودي وكوني ، فهي ترتبط بالأرض ومكوناتها ، وترتبط بالمناخ ، وترتبط بالتفكير ، وترتبط بالجهد والعمل .

النقطة الثانية : أن كل هذه الأمور المتعلقة بالرزق في بعدها الكوني هي بيد الله ، ولا توجد قوة في الأرض لها طاقة بها ، بحيث تستطيع التحكم بالرزق في بعده الكوني والوجودي .

من له القدرة ؟!!

فالرزاعة والصناعة والصيد ترتبط بالأرض ومكوناتها ، فإذا خسف الله الأرض ، أو جعل الماء أو النفط يغوران فيها مثلا ، فمن له القدرة على أن يمنع خسف الأرض ؟!! ومن له القدرة على تفجير المياه من جديد ؟!! وإذا غير الله المناخ ، فجلب العواصف ، فمن له القدرة على تهيئة المناخ المناسب ؟!! وإذا كان الرزق يتعلق بجسمك ، وبأكلك وشربك ، فإذا أتلف الله أعضاءك ، فأفسد المعدة مثلا ، وجعلها لا تتقبل الطعام ، فهل توجد قوة تستطيع إعادة معدتك لوضعها السابق ؟!! وإذا أفسد الله عقلك ، فهل تستطيع قوة أخرى أن تمنحك القدرة على التفكير ؟!! وإذا ضرب الله جهازك العصبي ، وأصابك بالشلل ، فهل يستطيع أحد أن ينفعك ؟ هل توجد قوة لها طاقة بهذه الأفعال .. لذا عليكم أن تدركوا أن الله يربط الرزق بهذه الأبعاد ، وأن لا قوة في العالم تستطيع التحكم في الرزق حينما نربطها بهذه الأبعاد الوجودية ، ولا يزال السؤال يتردد على لسان الله : ( أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه ؟!! ) هذا المعنى يؤسس لمعالجة الكثير من الحالات المتعلقة بالرزق ، أذكر منها ثلاث حالات :

إنما أوتيته

الحالة الأولى – الحالة الفردية : وذلك حينما يربط الشخص رزقه بنفسه ، كما قال قارون : ( إنما أوتيته على علم من عندي ) أي أنني حصلت على هذه الثروة بعملي وذكائي وإبداعي ، وينسى ويغفل عن فضل الله عليه ، فلا يؤدي حقه في هذا المال من الخمس والصدقة والزكاة وغيرها ، لأن المال ماله حسب ادعائه ، ولا علاقة لله به ، والله يحذرنا من هذه الحالة .

هذه نظرته للرزق

الحالة الثانية – على مستوى المجتمع : فقد يبني مجتمع من المجتمعات ركائز التنمية الاقتصادية والاستثمار على غير منهج الله ، فيضع أحكاما وقوانين مخالفة لأحكام الله عز وجل ، وقد يضرب بالقيم الإلهية عرض الحائط ، فيلجأ إلى الاستثمار في الخمر ، أو حتى الاستثمار في الفروج ، هذه هي نظرته للرزق ، وفي ذلك تنمية للرزق على أساس الحرام ، وفي ذلك انسلاخ من إنسانية الإنسان ، أي أنه يبيع جسده ليقتل روحه ، بنظرة مادية بحتة .

تبيع قضاياك كلها

الحالة الثالثة : أنك تستعين بقوة أجنبية ، قوة عظمى ، تقدم لك الدعم المادي ، على حساب انتمائك الديني أو الوطني أو القومي أو الإسلامي ، والتنازل عن مواقفك المبدئية ، بحيث تبيع قضاياك الأساسية كلها .

إذن فالآية تعالج هذه الحالات الثلاث ، وحالات أخرى ، وكل هذه الحالات قائمة على عدم الاستعانة بالله في مسألة الرزق .

قوله تعالى : ( بل لجوا في عتو ونفور ) لجوا بمعنى : تمادوا وتجاوزوا الحدود في الابتعاد عن الحق والخير والعدل والإنصاف ، والعتو بمعنى : التمرد على الحق وعدم الخضوع إليه ، والنفور بمعنى : الشرود والذهاب عن الحق .

هذه الآية لها أكثر من دلالة :

بطلان .. عدم تفكير .. في غاية القبح

الدلالة الأولى : أن الاعتماد على الدعم من القوى الأجنبية ، بحيث ترى أن هناك قوة تستطيع إمدادك بالرزق دون الله ، هي مسألة في غاية الوضوح من البطلان ، ولا تحتاج إلى كثير من التفكير .

الدلالة الثانية : أن مخالفة ما تضمنته الآية حول موضوع الرزق ، إما نتيجة عدم التفكير ، أو التفكير في الاتجاه االمعاكس وغير الصحيح ، كما أن المخالف لهذه القاعدة لا يسمع لنصيحة ولا لموعظة ، كما في قوله تعالى على لسان أهل النار : (ولو كنا نسمع أو نعقل ، ما كنا من أصحاب السعير) .

الدلالة الثالثة : أن العمل الذي تعتمد فيه على قوة غير الله في الرزق ، وتحارب به الله عز وجل ، هو عمل في غاية القبح ، فالإساءة للآخرين عمل قبيح ، ولكن أن تسيء لمن يحسن إليك ، فهذا قبح مضاعف ، كأن يسيء المخلوق إلى الخالق ، أو المرزوق إلى الرازق ، فهذا عمل في غاية القبح ، ومثله أن يسيء الولد إلى أبيه ، والناس عيال الله ، وكل رزقهم من الله ، لكنهم يسيئون إليه ، وبدل أن يشكرونه ، يستعينون بقوى أخرى ظالمة في محاربته ، وهذا عمل في غاية القبح .

الجواب واضح

قوله تعالى : ( أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى ؟!! أمن يمشي سويا على صراط مستقيم ؟!! ) الآية تطرح سؤالا ، وهذا السؤال استنكاريا ، وفيه توبيخ وتقريع ، لماذا ؟ لأن الجواب على السؤال واضح ، ونتيجة لهذا الوضوح في الجواب فإن السؤال في الآية هو سؤال انكاري .

صورة حسية

الآية تصور هذا الموقف في صورة حسية ، وهي تتكلم عن حقائق الفريقين ، فأما الفريق الأول ، فهو الفريق الذي تتكلم عنه الآيات السابقة ، وهو الفريق الذي يخالف الحق والعدل والخير ، ويحارب قوى الحق والعدل والخير والسلام ، ويستعين بالقوى الأجنبية على مواجهة هذه القوى ، فيكون محاربا لله عز وجل ، وهو الذي يخالف منهج الله في التنمية الاقتصادية والاستثمار ، ولا يشكر الله عز وجل فيما أنعم عليه ، هذا الفريق هو الفريق الأول ، في مقابل فريق ثان منزه عن هذه الصفات ، لم تذكره الآيات ، لكنه يعرف من خلال صفات الفريق الأول .

الكثير من ..

كيف تصور الآيات الفريق الأول ؟ ( أفمن يمشي مكبا على وجهه ) فالآية تصور الفريق الأول أنه يسير في طريق وعر متعرج ، بعيد المسافة ، فيه الكثير من العثرات والعقبات ، والكثير من المطبات والمنخفضات ، والكثير من المزالق والمخاطر ، هذا هو الطريق الذي يسير فيه الفريق الأول ، وعلى أي حالة ؟!!! ( مكبا على وجهه ) وهذا الوصف لها ثلاثة معاني توصف حالة الفريق الأول :

المعنى الأول : أنه منبطح على وجهه ، ويزحف على وجهه وصدره ، ويحرك رجليه وقدميه وهو في حالة الزحف .

المعنى الثاني : أنه يمشي ، وهو مطاطئ رأسه إلى الأرض ، ولأن الأرض فيها عثرات ومزالق ، فهو كثيرا ما يعثر ويسقط على وجهه ، أي يقوم ويسقط على وجهه من جديد .

المعنى الثالث : أنه غير قادر على حفظ توازنه ، أي يمشي بغير اتزان ، فكلما مشى تعثر وسقط على وجهه .. هكذا حاله حتى نهاية الطريق .

سيموت على هذه الحال

هذه حال الطريق التي يمشي فيها الفريق الأول ، فهو لا يرى الأرض التي يمشي عليها ، وغير مستوعب لهذه الطريق ، وللمخاطر التي قد تكتنفه فيها ، كما أنه يعيش المشقة والتعب والاضطراب والقلق ، وهو في نهاية المطاف لن يصل إلى أهدافه ، وسوف يموت وهو على هذه الحال .

قادر على النجاح

أما الفريق الثاني ، فيسير على طريق مستقيم لا اعوجاج فيه ، قريب المسافة ، مستو بلا عثرات ولا مطبات ولا مزالق .. وعلى أي حال يمشي ؟ .. يمشي سويا مستقيما ، مرفوع الرأس والقامة ، وبالتالي فهو يبصر الطريق التي يمشي فيها ، ومستوعب لها ، وكل ما فيها من أمور وشئون ، فهو يسير بثقة واطمئنان ، وهو قادر على النجاح في الوصول إلى أهدافه .

تخويف ووعد

أما الجانب الأخير في هذه الآية ، فهو أن الآية فيها تحذير وتخويف وتهديد للفريق الأول من أن ينزل عليه عذاب الله وانتقامه ، كما أن فيها وعدا بالنصر للفريق الثاني .

بعد هذه الوقفة مع الآيات الشريفة المباركة ، انتقل إلى الحديث السياسي ، والحديث السياسي في هذا الأسبوع ، لا يتعلق بالشان الداخلي ، وإنما يتعلق بالتهديدات الأمريكية المتصاعدة بالهجوم على العراق .

كيف ينقم الله

هذه الحرب تقودها أمريكا ، وأنتم تعرفون أن أمريكا حرضت صدام على الحرب ضد الجمهورية الإسلامية في إيران ، وأمدته بكل سلاح حتى السلاح المحرم ، وغضت النظر عن كل جرائمه تجاه شعبه ، وتجاه الجمهورية الإسلامية في إيران حينما استخدم السلاح المحرم دوليا ، وشجعت كل دول العالم على مده بالسلاح ، وضغطت عليهم لكي لا يتحدثوا عن جرائمه ، ضد شعبه وضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية في ذلك الوقت ، ومن الذين ساعدوا صدام أيضا دول الخليج ، وما أن توقفت الحرب ، وبعد فترة وجيرة ، هجم صدام على دولة الكويت ، ثم جاءت أمريكا وأخرجته منها ، وأبقت قواتها في الكويت وفي المنطقة ، وهي الآن تريد أن تسقط نظام صدام بعد أن أمدته بالسلاح ، وهكذا يتضح لنا كيف ينتقم الله من الظالمين بالظالمين .

الموضوع ليس جديدا ، وقد تحدثت عنه في أكثر من اتجاه ، وبأكثر من زاوية ، وفي هذا الأسبوع ، سأتناول مسألة تهمنا كشعوب ، وهي محنة الشعب العراقي ، والشعوب العربية والإسلامية في هذه الحرب .

يكره أمريكا ولكن

نحن نعرف أن الشعب العراقي يكره أمريكا ، لا يحبها على الأقل ، لأن أمريكا سبب رئيسي في عذابات الشعب العراقي ، والشعب العراقي من جهة ثانية شعب أبي ، ويستحيل أن يقبل بوجود قوة أجنبية على أرضه لاحتلال بلده ، لكن الشعب العراقي في مشكلة حقيقية مع نظامه ، فهو نظام أذاق الشعب العراقي الويلات والبأس الشديد ، فمع كون الشعب العراقي لا يحب أمريكا ، فهو أبي ولا يقبل باحتلال أرضه ، لكن لأن نظامه وحكومته أذاقته العذاب ، وهو يريد التخلص من هذا النظام ، فهو إن لم يساعد أمريكا على إسقاط النظام ، فسوف يسكت حتى يسقط هذا النظام ، وبعد ذلك يفكر كيف يدبر أمره مع أمريكا وغير أمريكا ، هذا هو تفكير الشعب العراقي ، وهذه المشكلة ليست مشكلة الشعب العراقي فقط ، بل هي مشكلة الشعوب العربية والإسلامية كلها مع أنظمتها وحكوماتها ، ولهذا توجد على الساحة الآن ثلاث أطروحات ، وصدى هذه الأطروحات الثلاث ، موجود حتى في الإعلام الرسمي ، وسأذكرها لا لنأخذ الدرس نحن ، وإنما لتأخذ الدرس الحكومات :

أم مصائبنا

الأطروحة الأولى : تنظر بأن الأنظمة العربية هي أم كل مصائبنا ، وسببها المباشر في الوطن العربي ، فهي سبب تخلفنا ، وهي التي جلبت الاستعمار لأراضينا ، وهي التي تخلق الجدار لكي تحمي الكيان الصهيوني ، من غضب الشعوب العربية ، وأصحاب هذا الطرح يرون : أن أول عمل تقوم به الأنظمة العربية ، أن تطيح بحكوماتها وتغيرها لكي تتقدم ، وتتحرر من الاستعمار ، وتتنقم لكرامتها .

ضرورة توحيد الصفوف

الأطروحة الثانية : ترى ضرورة توحيد الصفوف على مستوى الحكومات والشعوب ، لوجود خطر خارجي يهدد كياننا ووجودنا وهويتنا ومكتسباتنا ، ولا نستطيع مواجهة هذا الخطر إلا إذا وحدنا صفوفنا حكومات وشعوب ، ويرى أصحاب هذا الطرح أن أسباب تخلفنا هي الصراعات الداخلية ، الصراعات بين الحكومات والمعارضة ، وبين القوى السياسية المختلفة ، وكل أموالنا وطاقاتنا وجهودنا ، بدلا من أن تذهب في التنمية ، تذهب في هذه الصراعات ، ويرون ضرورة وقف الصراعات لكي نتطور ، وأصحاب هذا الطرح ، ينقسمون إلى فريقين :

على أية حال

الفريق الأول : يرى ضرورة توحيد الصفوف بين الحكومات الشعوب على أية حال وذلك بأن نتناسى خلافاتنا ، ونوحد صفوفنا ونواجه الخطر الخارجي ، ونعيد تفعيل الشعار السابق القديم ( لا صوت يعلو على صوت المعركة ) ، ولكن العقلاء يرفضون هذا الطرح ، ويقولون : إن نسينا حقوقنا المنتقصه ، وقبلنا بالظلم والاستبداد ، لنحل مشكلتنا ونواجه العدو الخارجي ، فما النتيجة ؟!! النتيجة المزيد من التخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي ، النتيجة أن الاستعمار حل على أرضنا ، النتيجة أن العدو الصهيوني يزيدنا كل يوم ذلا وهوانا ، حتى وصل الأمر أن مؤتمراتنا أعداؤنا يحددون برنامج عملنا فيها ، وما ينبغي لنا أن نناقشه ، وما النتائج التي نخرج بها !! .

على أسس صحيحة

الفريق الثاني : يدعو إلى تحسين العلاقات بين الحكومات والشعوب ، ولكن على أسس صحيحة ، بأن نبني دولة المؤسسات والقانون ، وذلك من خلال الدساتير الصحيحة التي تعطي الشعوب حقوقها ، والبرلمانات الحقيقية ، وضمان حرية التعبير ، وإلا سوف تكون النتائج عكسية.

زاد عن حده

الطرح الثالث : وهو الطرح الذي يتبلور في هذه الأيام ، في ظل ما يذيقنا الكيان الصهيوني من إهانات ، وتزايد الغضب الشعبي العربي والإسلامي ، وفي ظل الاستعمار الجديد ، ونزول أمريكا لأراضينا واحتلالها ، وأصحاب هذا الطرح يقولون : أن غضب الشعوب العربية زاد عن حده ، وهو في حالة تراكم ، وكما يقولون : ” بلغ السيل الزبى ” ولابد أن ينفجر هذا الغضب في يوم من الأيام ، وهو يريد الشرارة فقط .. هذا الغضب موجه في الأساس ضد الصهاينة ، وموجه ضد الاستعمار ، وفي أكثر من ذكرت ، بأن قضية فلسطين هي المسائل التي سوف تصطدم فيها الشعوب مع الحكومات العربية ، والشعوب العربية سوف تنتقم لكرامتها ، وسوف تواجه هذا الاستعمار الجديد إما اليوم أو غدا ، كما واجهت في السابق الاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي ، وهذه المواجهة المرتقبة مع الاستعمار ، سوف تسيء إلى علاقة الشعوب مع الأنظمة ، مع كون المواجهة لا تستهدف الأنظمة ، وكون الشعوب لا ترغب بالمواجهة مع أنظمتها ، هذه حقيقة إن لم نراها اليوم سوف نراها غدا ، هذا مستقبل ينتظرنا ، فالمواجهة مع الاستعمار قادمة لا محالة ، وأنا أنصح .. أنا الصغير .. أنا الحقير .. أنصح الحكومات والشعوب أن يتحملوا مسئولياتهم .. وأن يفكروا بجد بحجم المسئولية الملاقاة على عاتقهم ، وأن يتصرفوا بمسئولية تجاه ، وأقول بكل وضوح : أن الحكومات تمادت وتجاوزت الحد ، والخطوط الحمراء ، وأن الشعوب لابد أن تنتفض ، وتنتقم لكرامتها .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

بتاريخ 22 شوال 1423 هـ الموافق 27 / 12 / 2002 م
في مسجد الشيخ خلف في قرية النويدرات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.