فهرس خطب الجمعة عام 2002

خطبة الجمعة بتاريخ 21-06-2002

نص الكلمة التي ألقاها الاستاذ بتاريخ 21 يونيو 2002 م

الخطبة الدينية : الرسول الأعظم – نقلة حضارية ، ومنة إلهية
الخطبة السياسية : القيادة – دراسة في كيفية صناعة القرار

( نحن نفترض في القيادة ، أنها هي التي تصنع رأي الجمهور ، فإذا وجد رأي أو توجه في الجمهور غالب ، ومخالف لرأي القيادة ، فهذا يدل على أن هناك خطأ في علاقة التواصل بين القيادة والجمهور ، وأن القيادة لا تمارس حقيقة صناعة الرأي الجماهيري ، وهو مؤشر خطير جدا ، يجب أن نتداركه بسرعة )
( قياداتنا ورموزنا محل ثقتنا ، ومحل احترامنا وتقديرنا ، وهم يتصفون بالورع ، والتقوى ، والأمانة ، ويمتلكون المؤهلات الكافية لاتخاذ القرار المناسب ، وأن قياداتنا ورموزنا ملء العين ، وملء القلب ، فلن نراهن عليهم أبدا ، فهم رمز عزتنا ، وقوتنا ، ورمز وحدتنا وتماسكنا ، وهذا كله محل اتفاق ، وليس محل اختلاف ، فإذا كان هناك اختلاف ، أو رأي ، أو نقاش ، فإنما هو في حيثيات اتخاذ القرار ، وفي القواعد والأسس ، وآليات اتخاذ القرار ، فالراهن أو الخلاف ليس على القيادة ، وإنما على حيثيات اتخاذ القرار )

( نحن لدينا إيمان بكفاءة ، وصدق ، وأمانة القيادة ، فإذا كان هناك عدد كبير جدا من النخبة ، لهم رأي مخالف لرأي القيادة ، ألا يدعو هذا الأمر القيادة إلى التوقف والتأمل والمراجعة للقرار ، فمسألة البرلمان ليست مسألة فقهية أو فكرية ، وإنما هي مسألة حياتية ، يتم فيها تشيخص المصلحة التي يشترك فيها الناس مع القيادة ، والمطلوب من القيادة أن تتوقف كثيرا ، وتتأمل في قرارها ، وأنا واثق أن القيادة سوف تكون عند حسن ظن الجميع ، ولن تخذلنا أبدا )
( القائد الحقيقي هو القائد الذي يكون قريبا من القاعدة ، فيشعر بآلامها ، وأفراحها ، ومعاناتها ، ويشاركها في كل ذلك ، والتفاعل بين القائد والقاعدة ، يتوقف على إيمان القاعدة بالدستور أو المنهج ، وإيمانها بالقائد ، وبصدقه ، وإخلاصه ، وتفاعله ، وقربه من الجمهور ، فإذا لم يكن هذا الإيمان موجودا ، فلن يكون هناك تفاعلا ، ولن تكون هناك نتائج طيبة )
( قياداتنا لا تحاول خداع القاعدة ، ولا تحاول تجهيلها أو تجاهلها ، وإنما صادقة مع هذه القاعدة ، بحكم ورعها وتقواها وأمانتها ، وهي تسعى ، وتجاهد ، وتضحي من أجل نشر الوعي في صفوف القاعدة أو الجماهير ، وتعليمهم وتحريكم نحو الله ، ونحو مصالحهم ، فإذا اتخذ قرار معين خلاف رأي الجمهور ، فلا يعني ذلك التجاهل ، وإنما يعني أن هناك تقدير عند هؤلاء الرموز ، للمصلحة الإسلامية والوطنية ، أصابوا أم أخطأوا ، فهم صادقون ومخلصون ، ولكن رأيهم وتقديرهم للمصلحة هو هذا ، هذا هو تقييمنا لرموزنا )
( حينما يكون هناك خلال في دائرة صناعة القرار ، هل نتجاهل هذا الخلل ، أو نسكت عنه تحت عنوان الطاعة ؟ الحق يجب أن نشير بالبنان لهذا الخلل ، ونعمل على تشخيصه بدقة ، ثم نسعى لإصلاحه من أجل المصلحة الإسلامية والوطنية ، ولا يصح التغافل أو السكوت عن ذلك تحت عنوان الطاعة ، فهذا مضر بوضع الجماعة في حاضرها ومستقبلها ، ويجب أن نخلق توازنا بين الطاعة ، ومقتضى إصلاح الخلل في دائرة صناعة القرار )
( في الوقت الراهن : النخبة والجمهور يعطيان أهمية كبيرة جدا ، ومصيرية ، للانتخابات البرلمانية ، أكبر بكثير من الانتخابات البلدية ، وحالة التوجه الرفض أكبر بكثير مما كانت عليه في الانتخابات البلدية ، وبالتالي ، فإن اتخاذ القرار خلافا لتوجهات الجمهور ، سوف تنتج عنه سلبيات خطيرة جدا ، على مستوى وحدة التيار وتماسكه ، وعلى مستوى علاقته بالرموز ، بل حتى على مستوى الحالة الإيمانية والروحية والنفسية لأبناء التيار )
( ليس المطلوب من الرموز أن يطرحوا رأيهم في الوقت الحاضر ، لأن الرموز هم ظل للجميع ، والحبل الذي يمسك وحدة الجماعة ، وتماسك الجماعة والتيار ، لهذا لا يصح بأن يُصنَّف الرموز بأنهم ضد أو مع شريحة أو فئة من التيار ، وإنما هم يجب أن يكونوا مع الجميع ، فلو طرح الرموز رأيهم الآن ، لقيل بأن الرموز مع فلان ، وضد فلان ، مما سيؤدي إلى تجزئة الساحة ، والاختلاف حول الرموز )
( الغالب اليوم على أبناء البحرين ، نساء ورجالا ، التعليم ، بل التعليم العالي ، وهم أصحاب اختصاص ، في كل مجالات المعرفة ، في السياسة ، والاقتصاد ، والاجتماع ، والتربية ، فيهم الأكاديميون ، وأساتذة الجامعة ، والمهنييون ، والمدرسون ، ورجال الأعمال، … إلخ ، وكل هؤلاء ، يتوقعون أن يكون لهم دور ، ويستشارون في المسائل المهمة ، لأنهم أصحاب اختصاص ، قد يتفوقون على القائد في موضوع اختصاصاهم ، فهل هؤلاء يتوقعون من القائد أن يوجههم ، أم يتوقعون منه أن يشاورهم ؟ الجواب : طبعا يتوقعون مشاورتهم ، والصحيح أنه تجب مشاروتهم في ذلك ، هذا ما تتطلبه المصلحة العامة ، الإسلامية والوطنية ، وهذا ما يجعل انقيادهم أمرا طبيعيا وصحيحا ، أما عدم المشاورة ، فهو لا يصب في المصلحة الإسلامية والوطنية ، ولا يجعل أمر امقيادهم سهلا وممكنا )

أعوذ بالله السميع العليم من شر نفسي و من سوء عملي و من شر الشيطان الغوي الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، اللهم صل على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين ومن اتبعه بإحسان إلى قيام يوم الدين ، السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أمير المؤمنين ، السلام على فاطمة الزهراء سيدتي وسيدة نساء العالمين ، السلام على خديجة الكبرى ، السلام على الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة ، السلام على جميع الأوصياء ، مصابيح الدجى ، وأعلام الهدى ، ومنار التقى ، والعروة الوثقى ، والحبل المتين والصراط المستقيم ، السلام على الخلف الصالح الحجة بن الحسن العسكري روحي وأرواح المؤمنين لتراب مقدمه الفداء ، السلام على العلماء والشهداء ، السلام على شهداء الانتفاضة ، السلام عليكم أيها الأحبة ، أيها الأخوة والأخوات في الله ورحمة الله وبركاته .

قال تعالى : ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ، يتلو عليهم آياته ، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإنْ كانوا من قبل لفي ضلال مبين * ) صدق الله العلي العظيم .
هذه الآية الشريفة المباركة ، تشير إلى خمس نقاط أساسية :

لباب البحث

النقطة الأولى : أن الآية تشير إلى نقلة في المجتمع ، نقلة حضارية متميزة ، ومهمة جدا ، وتلفت الانتباه إلى هذه النقلة ، وتدعو إلى التأمل فيها ، والاستفادة من دروسها ومن عبرها .
النقطة الثانية : أن الآية تشير إلى علة هذه النقلة ، وتتمثل هذه العلة في منهج أو دستور السماء ، وتتمثل في القائد المؤمن ، المخلص ، الصادق ، الذي يؤمن بالمنهج ، ويرتبط بالناس بصدق وبإخلاص ، وتتمثل أيضا في التفاعل المخلص والصادق ، بين الجمهور أو القاعدة مع هذا المنهج ، وهذا القائد .
النقطة الثالثة : أن الآية تشير إلى الأساس الذي يقوم عليه المنهج أو الدستور ، وهو الوعي ، واحترام عقله الإنسان ، وإرادة واختيار الإنسان .
النقطة الرابعة : أنها تشير إلى الغاية من هذا الدستور ، ومن هذا النهج السماوي ، والغاية من حركة ودور القيادة ، المتمثلة في تزكية النفس والمجتمع ، وتطهيرهما من الرذائل ، ثم الرقي بالإنسان في مدارج الكمال ، والرقي بالمجتمع في مدارج التطور .
النقطة الخامسة : أنها تطرح أربعة خطوط رئيسية للثقافة الإسلامية ، وهي : العقائد ، والأحكام ، والأخلاق ، والسيرة .
قوله تعالى : ( لقد منَّ الله على المؤمنين ) المن : ما يوزن به ، ولهذا يطلق المنُّ على النعم الكبيرة ، الطيبة والعظيمة ، وأصل المنِّ هو : القطع ، كما في قوله تعالى : ( وإن لك لأجرا غير ممنون ) أي غير منقطع ، ولهذا نجد بأن للمن معنيين ، معنى إيجابي جميل ومستحسن ، ومعنى سلبي مستقبح .

لا تشوبها شائبة

المعنى الإيجابي للمن : هو بمعنى العطاء ، والنعم الكبيرة ، التي لا تشوبها شائبة ، وأطلق على هذه النعم بالمنة ، لأنها تقطع الحاجة أو البلية ، فالإنسان حينما يكون في حاجة أو بلية ، تأتي هذه النعمة ، فتستنقذه منها ، وبالتالي تقطع البلية أو الحاجة.

تضخيم وتحقير

المعنى السلبي للمنَّ : هو تضخيم الخدمات والنعم الصغيرة ، وتكبيرها ، وأن المعطي يستعلي على المُعطى ، ويحقره ويذله ، وبالتالي فهذا التكبير إلى النعمة ، والاستعلاء ، والتحقير ، يقطعون وجوب الشكر ، لأنه إذا أنعم إنسان على إنسان من خلال العطاء ، وكانت هذه النعمة خالصة لله – جل جلاله – بدون شائبة ، فإنها تستوجب الشكر ، أما إذا حاول المعطي أن يترفع ويستعلي على المُعطى ، وحاول أن يذله ، ويهينه ، ويحقره ، فهذه الأمر يقطع وجوب الشكر ، ويكون هذا المعطي غير مستحق لوجوب الشكر .

المستفيدون

( لقد من الله على المؤمنين ) هنا ، منة الله – جل جلاله – على المؤمنين ، تدل على فيوضات الله للمؤمنين بما هم مؤمنين ، وتدل إلى وجود عناية خاصة ، واهتمام خاص ، ولطف خاص من الله بالمؤمنين ، فهناك عطاء ، وهناك عناية خاصة بالمؤمنين ، ولكن المعلوم : أن عناية الله ولطفه عامَّان ، لانه رب العالمين ، فلماذا خُصَّّ المؤمنون بهذه العناية ، وبهذا اللطف ، والجواب : لأنهم هم الذين يستفيدون من هذه النعمة ، ويستشعرون قيمتها ، ويتوجهون إلى شكر هذه النعمة ، والاستفادة من ثمراتها ، أم غير المؤمنين ، فمع رعاية الله لهم ، وتوجه الله لهم باللطف والعناية ، إلا أنهم لا يستفيدون من ذلك ، لأنهم لا يستشعرون هذه النعمة ، ولا يتوجهون لها ، ولا يحاولون أن يستفيدوا من نتائجها .

لا يتحرك من ذاته

( لقد من الله على المؤمنين ، إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ) بعث بمعنى أرسل ، أما قوله تعالى : ( رسولا من أنفسهم ) فذكر الرسول (ص) يدل على أن النبي المبعوث لا يتحرك من ذاته ، ولا يتحرك بمنهج خاص من عند نفسه كمصلح اجتماعي مثلا ، ولا يتحرك بناء على خبرة خاصة اكتسبها ، وإنما يتحرك بمنهج السماء ، بمنهج أوحي إليه به من عند الله – جل جلاله – ، وأنه مسدد ومنصور من قبل الله .

العلاقة الحقيقية

قوله تعالى : ( من أنفسهم ) أي من الجنس البشري ، فهو بشر مثلهم ، ليكون قريبا منهم ، وليس غريبا عنهم ، ويشعر بحاجاتهم ، وآلامهم ، ومعاناتهم ، وأفراحهم ، وطموحاتهم ، ويستطيع أن يشارك في كل ذلك ، فهو قريب منهم ، ولأنه كذلك ، فهو يستطيع أن يشاركهم في الأفراح والآلام ، ويكون قدوة لهم ، وحجة عليهم ، وهذه هي العلاقة الحقيقية بين القائد ، والجماعة أو الأمة التي يقودها ، فالقائد الحقيقي هو القائد الذي يكون قريبا من القاعدة ، فيشعر بآلامها ، وأفراحها ، ومعاناتها ، ويشاركها في كل ذلك . ولفظ ( من أنفسهم ) له دلالتان أساسيتان :

علاقة نفس بنفس

الدلالة الأولى : أن الصلة أو العلاقة بين الرسول أو الأمة ، ليست هي العلاقة بين الفرد والجنس ، فهو ليس شخصا عاديا ، وإنما علاقة النفس بالنفس ، فالله تعالى لم يقل في الآية بأن الرسول واحدا منهم ، وإنما قال ( من أنفسهم ) ، فهناك تفاعل في العلاقة ، وهناك صدق ، وإخلاص ، وتواصل .

إيمان بالمنهج والقائد

الدلالة الثانية : أن المؤمنين وصلوا إلى هذا المستوى من العلاقة مع الرسول لإيمانهم ، أي لأنهم مؤمنين بالمنهج الذي جاء به ، ومؤمنين بالقائد الذي يقود الأمة على هذا المنهج ، فإذا لم يكن هناك إيمان بالمنهج أو الدستور ، وإذا لم يكن هناك إيمان بالقائد ، وصدقه ، وإخلاصه ، فلن يكون هناك تفاعلا ، ولن تكون هناك ثمرة وإنتاجا طيبا ، فالتفاعل بين القائد والقاعدة ، يتوقف على إيمان القاعدة بالدستور أو المنهج ، وإيمانها بالقائد ، وبصدقه ، وإخلاصه ، وتفاعله ، وقربه من الجمهور ، فإذا لم يكن هذا الإيمان موجودا ، فلن يكون هناك تفاعلا ، ولن تكون هناك نتائج طيبة .

الوعي هو الأساس

( يتلو عليهم آياته ) يتلو بمعنى يقرأ ويفهِّم ، والآيات بمعنى الدلائل والبراهين والبينات ، فالرسول يقرأ على الناس والمؤمنين آيات الله ، ويخاطبهم بكلام الله وقرآنه ، ويفتح عقولهم وقلوبهم على هذه الآيات ، يفتح عقولهم وقلوبهم على وحدانية الله ، وعلى وجوب طاعة الله ، وعلى وجوب السير على نهج الله ودستوره في الحياة ، وهذه الفقرة من الآية : تشير إلى الأساس الذي يقوم عليه الدستور أو النهج ، ويسير عليه القائد ، وهو الوعي ، فالقائد والدستور يجب عليهما أن يخاطبان عقل الإنسان ، ويبصران الأنسان ، والأمة ، والقاعدة ، بحقوقها ، ووجباتها ، وطريقها في الحياة ، لا أن يخدعانها ، ويجب عليهما أن يحاولا أن يرتقيا بها ، ويطورانها ، لا أن يقفان عقبة في طريق رقيها وتطورها .

يطهر النفس والمجتمع

( ويزكيهم ) التزكية بمعنى التطهير والتنمية ، فهذا القائد ، ومن خلال الدستور الذي جاء به من عند الله ، يطهر النفس والمجتمع ، فهو يطهر النفس والمجتمع على مستوى الفكر ، فيطهرهما من الأفكار الوثنية والشرك ، ويطهر عقول الناس من الخرافات ، والأساطير ، والتصورات الكاذبة والوهمية ، والمفاهيم الباطلة ، ويربي عقولهم على الحق ، والتفكير العلمي الواضح ، ويطهر النفس من الرذائل والقيم الخبيثة ، وفي كل المستويات ، فيطهرها من الجبن ، والخوف ، والذل ، والبخل ، والكذب ، ومن كل قيمة وسلوك خبيث وسيء ، كما يطهر المجتمع من العادات والتقاليد الخبيثة والسيئة ، وينشر في المجتمع الفضيلة ، والعادات والتقاليد الحسنة ، التي تحفظ للمجتمع إنسانيته ، كما يطهر سلوك الفرد من الانحراف ، ويطهر المجتمع من الأنظمة الجائرة والظالمة ، فالرسول مصلح لنفس الإنسان ، ومصلح للمجتمع ، ويحاول أن يهيأ للنفس أسباب تطورها ، وتكاملها ، وسيرها في مدارج الكمال ، والقرب من الله – عز وجل – كما يهيأ للمجتمع أسباب التطور والتقدم .

( ويعلمهم الكتاب والحكمة ) الكتاب له معنيان :

ما هو الكتاب

المعنى الأول – هو القرآن : والرسول يقرأ عليهم القرآن ، ويعلمهم إياه ، لأنه النور الذي أنزله الله – عز وجل – ليضيء للناس حياتهم ، أو طريقهم في الحياة .
المعنى الثاني – هو الأحكام والفقه : التي تضبط وتنظم حياة الفرد والمجتمع ، فتنظم علاقة الفرد مع نفسه ، وعلاقته مع ربه ، وعلاقته مع بيته ومجتمعه ، كما تنظم علاقات الحاكم والمحكوم ، وكل العلاقات الفردية والاجتماعية ، فالكتاب فيه إشارة إلى هذه الأحكام والقوانين والأنظمة التي تنظم حياة الفرد والمجتمع ، وبالتالي فهي تشير إلى الخط الثاني من خطوط الثقافة الإسلامية ، وهي الأحكام ، فالخط الأول – كما ذكرت – هو خط الأخلاق ، وسوف أقف بعد قليل على موضوع التزكية مرة أخرى ، فالخط الأول للثقافة الإسلامية هو الأخلاق ، والخط الثاني هو الأحكام والفقه ، فالإنسان المؤمن يجب أن يتعلم المفاهيم الأخلاقية ، ويتعلم كيف يتربى عليها ، ويطبقها في سلوكه ، كما يجب عليه أن يتعلم الأحكام التي تنظم علاقاته ، مع ربه ، ومع نفسه ، ومع بيته ، ومع مجتمعه ، ومع الحاكم ، والعلاقة بين صاحب العمل والعامل ، والعلاقة بين البائع والمشتري ، وغيرها من الأحكام .

( ويعلمهم الكتاب والحكمة ) الحكمة لها ثلاثة معاني :
المعنى الأول : العلم مع العمل والعدل .
المعنى الثاني : صواب الأمر وسداده .
المعنى الثالث : وضع الأشياء في وضعها الصحيح .
والحكمة تشير هنا بصورة أساسية إلى العقائد ، وتمثل الخط الثالث من خطوط الثقافة الإسلامية ، والتعبير عن العقيدة بالحكمة له ثلاث دلالات رئيسية :

دلالات الحكمة

الدلالة الأولى : أن الإيمان علم وعمل ( فالعلم يهتف بالعمل ، فإن أجابه ، وإلا ارتحل ) فلا قيمة للعلم ، إذا لم يطبق ، والأمر يندرج على الأحكام أيضا ، كما أنه لا قيمة للنظرية إلا بالتطبيق ، فإذا قدمت لي نظرية جديدة محترمة وقوية ، أو دستورا جديدا كذلك ، ولم تطبقه ، فلا قيمة لهذه النظرية ، ولا لهذا الدستور .
الدلالة الثانية : أن استخدام لفظ الحكمة يدل على : أن احتساب الواقع ، كجزء من الموقف والقرار ، فلا يجدي أن تنظر للنظرية فقط حين تريد اتخاذ الموقف أو القرار ، وإنما يجب أن تنظر إلى النظرية وإلى الواقع لتتخذ موقفك أو قرارك المناسب ، الذي يخدم الأهداف العليا للإسلام .
الدلالة الثالثة : أن الأحكام ، والعقائد ، والمناهج ، والدساتير كلها ، لا قيمة لها ، إذا لم تعمل على تطوير الإنسان والمجتمع فعلا .

الأخلاق : تأهيل ، وغاية

بعد ذلك ، أشير إلى الأخلاق باعتبارها أحد خطوط الثقافة الإسلامية : لكي نوضح هذا الخط من خطوط الثقافة الإسلامية ، فيمكننا أن نشير للآية موضوع البحث وهي : قوله تعالى : ( يتلو عليهم آياته ، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة) بالإضافة إلى آية أخرى ، تشير إلى دعاء إبراهيم (ع) ، قوله الله تعالى على لسانه ( وابعث فيهم رسولا منهم ، يتلو عليهم آياتك ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، ويزكيهم ) فالآية الأولى حينما أشارت إلى التزكية في البداية ، أي قبل تعليم الكتاب والحكمة ، فإننا نستفيد من ذلك ، بأن تزكية النفس وتطهيرها ، تؤهلها لتعلم الكتاب والحكمة ، فالنفوس الزكية الطاهرة من الرذائل ، هي المؤهلة أكثر من غيرها ، لتعلم الكتاب والحكمة ، والاستفادة منه عمليا في حياتها ، أما الآية الثانية التي جاء لفظ التزكية في نهايتها ، بعد تلاوة الآيات ، وتعلم الكتاب والحكمة ، فإنها تشير إلى أن تزكية النفس هي الغاية ، بمعنى أن غاية الأحكام ، والعقائد ، والمفاهيم ، والقوانين ، والدساتير ، وغاية القيادة أيضا هي : الأخلاق ، وتزكية النفس ، وتطهيرها من الزذائل ، كما في قول الرسول الأعظم (ص) ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) وقوله (ص) : ( الدين المعاملة ) فالصلاة التي تصليها يجب أن تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والزكاة التي تدفعها يجب أن تطهر نفسك ، والصيام لابد أن يطهر نفسك ، والحج والشعائر يجب أن تربي فيك التقوى ، وهكذا ، فالذي لا أخلاق له ، لا دين ولا إيمان له .

ضرورة دراسة السيرة

أما الخط الرابع من خطوط الثقافة الإسلامية ، فهو السيرة ، وهذا ما تشير إليه الآية الشريفة ( لقد من الله على المؤمنين ، إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ) فهذا الرسول ، يجب أن نتعلم وندرس سيرته ، لكي نقتدي بها ، كما في قوله تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) ، فهو رسول الله ، وهو القدوة ، وهو الحجة على الناس ، ويجب علينا أن نتعلم سيرته ، كما يجب علينا أن نتعلم سيرة الأنبياء السابقين ، وسير الأئمة (ع) لكي نقتدي بهم جميعا .

الرسول المنقذ المعلم

( وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) أي ، إن كانوا من قبل البعثة ، ومن قبل المنة الإلهية بها ، ( لفي ضلال مبين ) والظلال هو : البعد عن الصواب ، وعن الحق ، وعن الصراط المستقيم ، والضلال : ضد الرشد ، والهدى ، والظلال المبين : هو الضلال الواضح ، غاية الوضوح ، فالبشرية كلها ، كانت قبل النبي محمد (ص) في ضلال ، فهي ضالة في أفكارها ، وفي عقائدها ، وفي مفاهيمها ، وضالة في قيمها وأخلاقها ، وضالة في سلوكها ، وضالة في الأنظمة التي تنظم المجتمع ، ولكن الله بعث النبي محمد (ص) ، ومنَّ على البشرية بهذا النبي ، فأعطاهم وجودا ومنهجا فكريا وعقائديا ، واجتماعيا ، واقتصاديا ، ونظم حياتهم بكل ما في الكلمة من معنى ، كما أنهم كانوا ضالين حتى في اهتماماتهم ، فلم تكن لهم تلك الاهتمامات الكبيرة ، وإنما كانت لهم اهتمامات حقيرة ، ليست ذات أهمية ، فجاء النبي محمد (ص) ، وغيَّر أفكارهم ، وعاداتهم ، وتقاليدهم ، وغير أنظمتهم ، كما أعطاهم اهتمامات كبيرة ، وفتح آفاقهم عليها ، وأعطاهم رسالة في الحياة ، ليحملوها للناس جميعا .

الرسالة الأممية العالمية

والعرب اليوم ، إذا كانت لهم قيمة ، فقيمتهم أن يحملوا هذه الرسالة ، وإذا تخلوا عن هذه الرسالة ، فلا قيمة لهم ، وهم في ضلال مبين ، ولا قيمة لهم في العالم ، وهذا ما نراه اليوم ، فالعرب والمسلمين لا قيمة لهم ، ومحتقرون من كل العالم .. لماذا ؟!! لأنهم لا توجد لهم رسالة ، وليس لهم دور في هذه الحياة ، والذي يعطي للعرب والمسلمين قيمة ، أن يتمسكوا بها الرسالة ، ويكونون دعاة لها ، ويبلغونها لكل العالم ، فيخرجون الناس ، كافة الناس ، من الظلمات إلى النور ، فهذه الآية تفتح آفاقنا على النقلة الحضارية ، للمجتمع بعد البعثة ، من وضع متخلف ، إلى وضع حضاري متقدم جدا ، وتشير إلى علة هذه النقلة ، وتتمثل في منهج أو دستور السماء ، والقائد الرباني المخلص والمقتدر ، والتفاعل الصادق والمتفاني من القاعدة ، مع الدستور ، والقائد ، ولولا هذه العناصر الثلاثة ، لما كانت هذه النقلة ، وهي تدعونا للتأمل فيها ، والاستفادة منها ، لكي نحدد موقعنا في المسيرة الإنسانية العالمية ، ودورنا فيها .

يطرح من قبل

بعد هذه الوقفة مع الآية الشريفة ، آتي إلى الساحة الوطنية ، وأحاول الإجابة على سؤال واحد ، والسؤال يطرح من قبل طلاب العلوم الدينية ، ومن قبل المثقفين ، أي أنه يطرح بوجه خاص من قبل النخبة : سواء كانوا طلاب العلوم الدينية أو المثقفين ، والسؤال يقول : ما قيمة طرح الآراء ، والمناقشة ، وما قيمة توعية الجماهير ، إذا كانت القيادة والرموز في النهاية ، سوف يتخذون قرارا بعيدا عن آراء الجمهور والنخبة ، وبعيدا عن توجهاتهم ، ويضربون مثلا على ذلك : الانتخابات البلدية ، ويضربون هذا المثل من جانبين :

قرار وتوجهات على المحك

الجانب الأول : أن قرار القيادة ، كان بعيدا عن آراء ، وتوجهات الجمهور والنخبة .
الجانب الثاني : أن الجمهور ، كان عنده توجهات برفض المشاركة في الانتخابات البلدية ، ولكنه بمجرد أن اتخذت القيادات والرموز قرارا بالمشاركة ، تحول الرفض إلى قبول ، وبالتالي يأتي سؤالهم هذا : ما قيمة طرح الآراء ، والتوعية ، إذا كانت النتيجة هي هكذا ؟ ويشير المتسائلون إلى مقولتين :

يجب أن يقادوا

المقولة الأولى : أن الجمهور يجب أن يقادوا لا ان يقودوا ، وأن تغيير المعادلة ، بأن يفرض الجمهور رأيه على القيادة فيها خطر كبير ، فهذه المقولة تحذر من أن تتغير المعادلة ، ويحاول الجمهور بأن يفرض رأيه على القيادة .
المقولة الثانية : أن القاعدة أو الجمهور لا يمتلك الوعي الكافي ، لكي تتم مشاركته في صناعة القرار ، ومن ثم يلزم أن تفرض القيادة وصاية على القاعدة أو الجمهور. ويطرح سؤال أيضا : لماذا لم يطرح الرموز رأيهم حتى الآن ، فيما يتعلق بالانتخابات البرلمانية ؟

الجواب على السؤال في عدة نقاط :

قياداتنا محل ثقتنا

النقطة الأولى : أن القيادة الرئيسية للتيار الإسلامي ، بما هو تيار إسلامي ، يجب أن تكون للرموز العلمائية ، التي تحدد مضمون ومحتوى هذا التيار ، فهم أهل الاختصاص في هوية التيار ، وهي الهوية الإسلامية ، فهم الذين يحفظون لهذا التيار هويته ، ويعطونه المضمون الحقيقي والصحيح .. هذا من جهة ، ومن جهة ثانية ، فأن قياداتنا ورموزنا محل ثقتنا ، ومحل احترامنا وتقديرنا ، وهم يتصفون بالورع ، والتقوى ، والأمانة ، ويمتلكون المؤهلات الكافية لاتخاذ القرار المناسب ، وأن قياداتنا ورموزنا ملء العين ، وملء القلب ، فلن نراهن عليهم أبدا ، فهم رمز عزتنا ، وقوتنا ، ورمز وحدتنا وتماسكنا ، وهذا كله محل اتفاق ، وليس محل اختلاف ، فإذا كان هناك اختلاف ، أو رأي ، أو نقاش ، فإنما هو في حيثيات اتخاذ القرار ، وفي القواعد والأسس ، وآليات اتخاذ القرار ، فالراهن أو الخلاف ليس على القيادة ، وإنما على حيثيات اتخاذ القرار .

لاتحاول .. وإنما

النقطة الثانية : أن قياداتنا لا تحاول خداع القاعدة ، ولا تحاول تجهيلها أو تجاهلها ، وإنما صادقة مع هذه القاعدة ، بحكم ورعها وتقواها وأمانتها ، وهي تسعى ، وتجاهد ، وتضحي من أجل نشر الوعي في صفوف القاعدة أو الجماهير ، وتعليمهم وتحريكم نحو الله ، ونحو مصالحهم ، فإذا اتخذ قرار معين خلاف رأي الجمهور ، فلا يعني ذلك التجاهل ، وإنما يعني أن هناك تقدير عند هؤلاء الرموز ، للمصلحة الإسلامية والوطنية ، أصابوا أم أخطأوا ، فهم صادقون ومخلصون ، ولكن رأيهم وتقديرهم للمصلحة هو هذا ، هذا هو تقييمنا لرموزنا .

المجتمع الحي بين الرأي والقرار

النقطة الثالثة : أؤكد على صحة المبدأ الذي كررته مرارا ، وهو تعدد الآراء ووحدة القرار . فتعدد الآراء ، لأن المجتمع الحي ، الذي يفكر بتفكير علمي موضوعي مستقل ، لابد أن يختلف أبناؤه في الرأي ، لاسيما في المسائل المهمة والكبيرة ، مثل الانتخابات البرلمانية ، فالاختلاف في الرأي شيء طبيعي . فحينما يكون هناك أكثر من رأي ، يجب أن نسمح لكل الآراء في التعبير عن نفسها ، فلا يصح أن نبرز رأيا ، ونغيب باقي الآراء ، فما هي الضمانة على أن الرأي الذي أبرزناه هو الرأي الصحيح ، فقد يكون هذا الرأي هو الرأي الخاطئ ، وأن الرأي الصحيح هو في الآراء التي غيبناها ، فكيف نكتشف الرأي الصحيح إذن ؟ نكتشفه من خلال عرض كل الآراء ومناقشتها مناقشة علمية موضوعية ، وبعد ذلك نختار الرأي الصحيح من بينها ، ونتخذ القرار بشأنه ، فهذا هو السبيل لتنضيج القرار ، والاطمئنان له ، وهو السبيل إلى توعية الأمة ، وتربيتها ، وتأهيلها لتحمل المسئولية الوطنية والإسلامية كاملة . أما وحدة القرار ، فالقرار تتخذه القيادة ، والقيادة يجب أن تطاع ، لأنه لا قيمة للقيادة إذا لم تطاع ، ولا أثر للقيادة إذا لم تطاع ، فأثر القيادة هو : توحيد الصف ، وتوحيد الكلمة ، فالقيادة هي الحبل الذي يجب أن تتمسك به الجماعة ، لتحفظ وحدتها وتماسكها ، وأن هذا الأثر لن يتحقق ، ما لم تطاع القيادة . ولكن هناك مسألة مهمة ، وذلك حينما يكون هناك خلال في دائرة صناعة القرار ، هل نتجاهل هذا الخلل ، أو نسكت عنه تحت عنوان الطاعة ؟ الحق يجب أن نشير بالبنان لهذا الخلل ، ونعمل على تشخيصه بدقة ، ثم نسعى لإصلاحه من أجل المصلحة الإسلامية والوطنية ، ولا يصح التغافل أو السكوت عن ذلك تحت عنوان الطاعة ، فهذا مضر بوضع الجماعة في حاضرها ومستقبلها ، ويجب أن نخلق توازنا بين الطاعة ، ومقتضى إصلاح الخلل في دائرة صناعة القرار .

ليس أمرا خاطئا

أما فيما يتعلق بالانتخابات البلدية ، فإن طاعة الرموز ليس أمرا خاطئا ، وإنما هو صحيح في نفسه حسب المبدأ السابق الذكر ، وهو تعدد الآراء ووحدة القرار ، ونتائج الانتخابات البلدية ، وبالتحديد نسبة المشاركة فيها ، تنبهنا إلى شيء في غاية الأهمية . ولكي نلتفت إلى هذا الشيء ، علينا أن نلتفت إلى مسألتين :

الجمهور لا يعطي .. يجب إصلاح

المسألة الأولى : وهي ، أن الجمهور لا يعطي أهمية للانتخابات البلدية ، كالأهمية التي يعطيها للانتخابات البرلمانية . فالانتخابات البرلمانية ، هي الأهم ، والحاسمة في مسيرته الوطنية ، والانتخابات البلدية ليست كذلك .
المسألة الثانية : أن جمعية الوفاق الوطني قررت المشاركة في الانتخابات البلدية ، والتيار يكن لها كل الاحترام والتقدير ، ويعدها مؤسسة التيار ، وممثلته في الشأن السياسي ، وأن الرموز العلمائية الكبيرة ، قدموا الدعم والمساندة لقرار الوفاق ، ودعوا الناس أو الجمهور للمشاركة في الانتخابات البلدية ، وكلنا يعرف مدى الاحترام والتقدير والطاعة الذي يكنه أو يلتزم به أبناء التيار تجاه هؤلاء الرموز ، ومع ذلك ينبؤنا القائمون على الحملات الانتخابية للتيار، في جميع الدوائر ، على حجم أو مدى الصعوبة التي واجهتهم في إقناع الكثيرين بالمشاركة ، وقد رأينا تدني نسبة المشاركة في الانتخابات البلدية رغم كل ذلك الجهد والتوجيه ، وهذا شيء خطير يدل على أن هناك خلل في العلاقة والتواصل بين القيادة والقاعدة ، ويجب إصلاح هذا الخلل في أسرع وقت ممكن ، وعدم التراخي أو التساهل بشأنه .

نتائج خطيرة

في الوقت الراهن : النخبة والجمهور يعطيان أهمية كبيرة جدا ، ومصيرية ، للانتخابات البرلمانية ، أكبر بكثير من الانتخابات البلدية ، وحالة التوجه الرفض أكبر بكثير مما كانت عليه في الانتخابات البلدية ، وبالتالي ، فإن اتخاذ القرار خلافا لتوجهات الجمهور ، سوف تنتج عنه سلبيات خطيرة جدا ، على مستوى وحدة التيار وتماسكه ، وعلى مستوى علاقته بالرموز ، بل حتى على مستوى الحالة الإيمانية والروحية والنفسية لأبناء التيار ، وأنا أؤكد هنا على ثلاثة أمور :
الأمر الأول : أن القيادات والرموز، لديها إحساس واضح ، بتوجهات القاعدة والنخبة بقوة نحو الرفض .
الأمر الثاني : أن القيادات والرموز ، لديها إحساس واضح ، بمدى وحجم الصعوبة ، في إقناع النخبة والجمهور ، بتغيير توجهاتها في مقاطعة الانتخابات البرلمانية القادمة .
الأمر الثالث : أن القيادات والرموز ، لديها إحساس واضح ، بمدى وحجم السلبيات ، الناتجة عن اتخاذ القرار ، خلافا لتوجهات النخبة والجمهور ، وكل ذلك ، يشير إلى الموقف المتوقع من القيادات والرموز .

الرموز ظل للجميع

فيما يتعلق ، بتأخر الرموز في طرح رأيهم بشأن الانتخابات البرلمانية ، فأنا أقدر أن التأخر صحيح وفي محله ، فليس المطلوب من الرموز أن يطرحوا رأيهم في الوقت الحاضر ، لأنه – كما ذكرت – بأن الرموز هم ظل للجميع ، والحبل الذي يمسك وحدة الجماعة ، وتماسك الجماعة والتيار ، لهذا لا يصح بأن يُصنَّف الرموز بأنهم ضد أو مع شريحة أو فئة من التيار ، وإنما هم يجب أن يكونوا مع الجميع ، فلو طرح الرموز رأيهم الآن ، لقيل بأن الرموز مع فلان ، وضد فلان ، مما سيؤدي إلى تجزئة الساحة ، والاختلاف حول الرموز ، والرموز لا ينبغي الاختلاف حولهم ، وإنما ينبغي الاجتماع حول الرموز . والمطلوب من الرموز الآن أن يشجعوا كل صاحب رأي على أن يطرح رأيه ، فالخلل هنا ليس في تأخر الرموز ، وإنما تأخر أصحاب الآراء عن طرح آرائهم ، والمطلوب من أصحاب الرأي سواء كان صاحب الرأي شخص ، أو جهة ، أو مجموعة ، سواء كان هذا الرأي بالمشاركة ، أو المقاطعة أن يطرحوا آراءهم ، وأن تناقش هذه الآراء ، والمطلوب من الرموز ، أن يقفوا على هذه الآراء المختلفة ، ويدرسونها دراسة مستفيضة ، ويحللونها ، وبعد ذلك يقومون بإجراء المشاورات الجانبية مع أصحاب الرأي والمشورة ، ثم في خطوة ثالثة ، يقومون بتداول هذه الآراء فيما بينهم كقيادات ورموز ، فيحددون الخيارات ، ويختارون أفضلها ، ويعلنون خيارهم ، وقرارهم على الأمة ، وبعد ذلك ، لن تختلف الأمة ، وإنما يقع الاختلاف إذا كان هناك تجاهل لآراء وتوجهات النخبة والجمهور ، أو في حال لم تكن هناك مشاورة كافية ، أو كان هناك خطأ في آلية التداول ، واتخاذ القرار ، وبالتالي لن يكون هناك اقتناع ، وهذا خلاف السيرة العقلائية ، وخلاف سير الأنبياء والأئمة (ع) .

النقطة الخامسة : وأشير لها من جانبين :

تأكيد وأمر

الجانب الأول : يتعلق بمبدأ الشورى ، كما في قوله تعالى ، وهو يأمر الرسول الأعظم (ص) ( وشارورهم في الأمر ) ، وفي آية أخرى تقرير مؤكد على هذا الأمر ، قوله تعالى : ( وأمرهم شورى بينهم ) فهناك تأكيد على مبدأ الشورى ، والالتزام به ، وأمر من الله – جل حلاله – لرسوله العظيم بأن يشاور الأمة ، أي تفعيل المبدأ العقلائي الذي أقره القرآن الكريم . وفي الشورى ملاحظتان :

لا تخضع

الجانب الأول – هو الجانب الديني : ويتعلق بالعقائد ، والمفاهيم ، والأحكام ، وهي جميعها لا تخضع لمبدأ الشورى ، فالرسول الأعظم (ص) لا يشاور الناس في صحة عقيدة ، أو مفهوم ، أو حكم شرعي ، وإنما يشاورهم في الجانب الثاني .

شاورهم في …

الجانب الثاني – هو الجانب الحياتي : وهو الأمر الذي يرجع إليهم ، قال تعالى : ( أمرهم ) أي الأمر الذي يخصهم في حياتهم ، وليس الأمر الذي يجب عليهم أن يطيعوا الله والرسول فيه ، قال تعالى : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة ، إذا قضى الله ورسوله أمرا ، أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) ، وهذا ما مارسه الرسول الأعظم مع الأمة ، حيث شاورهم في أمر الحرب ، والاقتصاد ، والسياسة ، والاجتماع … إلخ ، ثم يتخذ القرار على أساس الشورى ، ويكون ملزما للجميع بعد أن يتخذه الرسول القائد (ص) ، ونحن إذ نطرح مبدأ الشورى ، لا نعني الشورى في العقائد ، والمفاهيم ، والأحكام ، وهو الجانب الديني ، الذي تجب فيه الطاعة ، ولا شورى فيه ، وإنما نطرح الشورى في المبدأ الحياتي ، الذي يعود إلى الناس ، وهو من أمرهم ، كما في سيرة الرسول الأعظم (ص) .

نضرب مثلا

وفي سبيل توضيح المبدأ ، وإجلاء الغموض عنه ، نضرب مثلا بالسيد علي الخامنائي – حفظه الله تعالى – في الجمهورية الإسلامية في إيران ، هل هو يشاور الناس في الجمهورية الإسلامية في إيران ، حول آرائه ومفاهيمه ومعتقداته ، والأحكام الشرعية التي يراها حسب اجتهاده ؟ الجواب : طبعا لا . ولكن لو أراد أن يتخذ قرارا عسكريا ، هل يتخذ هذا القرار بعيدا عن مشاورة العسكريين ؟! الجواب : طبعا لا . ولو أراد أن يتخذ قرارا سياسيا ، هل يتخذ هذا القرار بعيدا عن مشاورة السياسيين ؟! الجواب : طبعا لا . ولو أراد أن يتخذ قرارا اقتصاديا ، هل يتخذ هذا القرار بعيدا عن مشاورة الاقتصاديين ؟ الجواب : طبعا لا . وهكذا في شئون الثقافة ، والتعليم ، وحقول الحياة المختلفة ، فللسيد علي الخامنائي – حفظه الله تعالى – مستشارون في جميع هذه الحقول ، يشاورهم ويشخص المصلحة معهم ، ثم يتخذ القرار المناسب ، بوصفه الفقيه القائد . فالشورى هي في هذه الجوانب ، وليست في العقائد ، والأفكار ، والمفاهيم ، والأحكام الشرعية .

الشورى بين مجتمعين

من جهة أخرى : فإن الشورى نسبية ، أو قل : أن أمر الشورى نسبي ، يختلف من مجتمع لآخر ، فالمجتمع الذي تغلب عليه الأمية ، وقلة الثقافة والتعليم ، يميل إلى الانصياع ، ويطلب من القيادة أن ترشده وتوجهه ، وهو يسلم إليها ، وينصاع لأوامرها . أما المجتمع الذي يغلب فيه التعليم والثقافة ، فإنه يميل إلى المشاركة ، وإبداء الرأي ، لأن فيه أصحاب الاختصاص ، الذين لهم رأي ، لا يقل أهمية عن رأي القائد نفسه ، وربما يتفوق عليه ، لأنهم من أهل الاختصاص ، ولا يفترض في القائد ، أن يكون متخصصا في جميع الحقول والاختصاصات ، وإنما يكون مؤهلا للتداول ، وتبادل وجهات النظر ، ثم اتخاذ القرار المناسب . ففي كلا الحالتين ، يجب تفعيل مبدأ الشورى ، حتى في المجتمع الذي تغلب عليه الأمية ، من أجل تثقيفه ، وتعليمه ، وتربيته ، ولكنها ألزم في المجتمع الذي يغلب عليه التعليم والثقافة ، بل لا تتحقق المصلحة إلا بذلك ، بل إن قيادته بغير مبدأ الشورى غير ممكنة .

أما اليوم

فإذا جئنا مثلا إلى مجتمع البحرين في السبعينات ، فإن التعليم في تلك المرحلة ، كان متواضعا ، فأغلب المتعلمين في تلك المرحلة ، كانوا يحملون شهادة الثانوية العامة ، أما اليوم فيغلب على أبناء البحرين ، نساء ورجالا ، التعليم ، بل التعليم العالي ، وهم أصحاب اختصاص ، في كل مجالات المعرفة ، في السياسة ، والاقتصاد ، والاجتماع ، والتربية ، فيهم الأكاديميون ، وأساتذة الجامعة ، والمهنييون ، والمدرسون ، ورجال الأعمال، … إلخ ، وكل هؤلاء ، يتوقعون أن يكون لهم دور ، ويستشارون في المسائل المهمة ، لأنهم أصحاب اختصاص ، قد يتفوقون على القائد في موضوع اختصاصاهم ، فهل هؤلاء يتوقعون من القائد أن يوجههم ، أم يتوقعون منه أن يشاورهم ؟ الجواب : طبعا يتوقعون مشاورتهم ، والصحيح أنه تجب مشاروتهم في ذلك ، هذا ما تتطلبه المصلحة العامة ، الإسلامية والوطنية ، وهذا ما يجعل انقيادهم أمرا طبيعيا وصحيحا ، أما عدم المشاورة ، فهو لا يصب في المصلحة الإسلامية والوطنية ، ولا يجعل أمر انقيادهم سهلا وممكنا .

التجربة المعصومة مثالا

الجانب الثاني : أن تؤخذ توجهات الجمهور بعين الاعتبار ، وأعطي في ذلك مثالا من التجربة المعصومة ، تجربة الإمام علي (ع) في صفين ، فالإمام علي لما أن رفع جيش معاوية المصاحف ، شخص الإمام بأن هذا العمل خدعة ، وشخص بعد ذلك أن التحكيم قرار خاطئ ، فحاول أن يقنع الجيش بأن هذه خدعة ، وأن قرار التحكيم خاطئ ، ولكن الجيش لم يقتنع ، فماذا فعل الإمام ؟ هل أصر على رأيه ؟ أم نزل على رأي الجيش ؟!! نعم .. لقد نزل على رأي الجيش ، لأن السلبيات في حالة إصراره على رأيه أكثر من السلبيات الناتجة عن نزوله على رأي الجيش الخاطئ ، الذي يمثل حقيقة توجههم ، وهذا الوضع الذي حصل من قبل الجيش هو وضع خاطئ ، وقد ذكرت فيما سبق بأن الجمهور يجب أن يخضع للقيادة ، والإمام علي (ع) لم يصنع هذا الجيش ، فهذا الجيش هو تربية الحقبة السابقة على عهد الإمام (ع) ، وهذا الأمر ينطبق علينا في الوقت الحاضر ، فإذا كان هناك توجه خاطئ عند الجمهور ، وهذا التوجه خلاف رأي القيادة ، التي ربت هذا الجمهور وأنشأته فيما سبق ، فهذا يدل على وجود خطأ في علاقة القيادة مع الجمهور ، فنحن نفترض في القيادة ، أنها هي التي تصنع رأي الجمهور ، فإذا وجد رأي أو توجه في الجمهور غالب ، ومخالف لرأي القيادة ، فهذا يدل على أن هناك خطأ في علاقة التواصل بين القيادة والجمهور ، وأن القيادة لا تمارس حقيقة صناعة الرأي الجماهيري ، وهو مؤشر خطير جدا ، يجب أن نتداركه بسرعة .

لدينا إيمان .. ولكن

من جانب آخر : نحن لدينا إيمان بكفاءة ، وصدق ، وأمانة القيادة ، فإذا كان هناك عدد كبير جدا من النخبة ، لهم رأي مخالف لرأي القيادة ، ألا يدعو هذا الأمر القيادة إلى التوقف والتأمل والمراجعة للقرار ، فمسألة البرلمان ليست مسألة فقهية أو فكرية ، وإنما هي مسألة حياتية ، يتم فيها تشيخص المصلحة التي يشترك فيها الناس مع القيادة ، والمطلوب من القيادة أن تتوقف كثيرا ، وتتأمل في قرارها ، وأنا واثق أن القيادة سوف تكون عند حسن ظن الجميع ، ولن تخذلنا أبدا .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

بتاريخ 10 ربيع الثاني 1423 هـ الموافق 21 / 6 / 2002 م
في مسجد الشيخ خلف في قرية النويدرات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.