محاضرات وندوات عام 2004

كلمة الأستاذ في إحياء ليلة القدر

كلمة الأستاذ في إحياء ليلة القدر

الموضوع : كلمة للأستاذ عبد الوهاب حسين .
المناسبة : إحياء ليلة القدر .
المكان : قرية النويدرات – مسجد الشيخ خلف .
اليوم : مساء السبت – ليلة الأحد .
التاريخ : 22 / رمضان / 1425 هـ .
الموافق : 6 / نوفمبر – تشرين الثاني / 2004 م .

أعوذ بالله السميع العليم ، من شر نفسي الأمارة بالسوء ، ومن شر الشيطان الرجيم .
بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله رب العالمين .

اللهم صل على النبي المصطفى محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين .
اللهم ارحمنا بمحمد وآل محمد ، وأهدي قلوبنا بمحمد وآل محمد ، وعرف بيننا وبين محمد وآل محمد ، واجمع بيننا وبين محمد وآل محمد ، ولا تفرق بيننا وبين محمد وآل محمد في الدنيا والآخرة طرفة عين أبدا يا كريم .
اللهم معهم .. معهم .. لا مع عدوهم .

السلام عليكم أيها الأحبة ..
أيها الأخوة في الله ورحمة الله تعالى وبركاته .

أيها الأحبة الأعزاء : إنا لم نخلق في هذه الحياة عبثا ، حاشى لله الحكيم أن يخلقنا عبثا ، وإنما خلقنا لغاية عظيمة .. عظيمة .. عظيمة .

ولكي نتصور عظمة وقيمة هذه الغاية .. علينا أن نتصور واقع حالنا .
إن أصلنا من التراب ، وبدايتنا نطفة حقيرة ، ونحمل في جوفنا عذرتنا ، ونعرق .. وإذا أهملنا أنفسنا ولم نهتم بنظافة أجسادنا أصابنا النتن ، وبعد الموت نصير جيفة .. ثم تعود أجسادنا إلى أصلها حينما تتحول إلى تراب !!

قال الله تعالى : { منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى } ( طه : 55 ) .

هذا هوا واقع حالنا ..

ولكن بسبب الجانب الملكوتي في أنفسنا .. أعني : النفخة الإلهية المقدسة فينا ، صرنا مؤهلين لأن يتكلم الله جبار السماوات والأرض معنا .. ونتكلم مع الله جل جلاله ونخاطبه !!

القرآن الكريم خطاب الله تعالى لنا ..

ونستطيع ونحن نقرأ القرآن الكريم أن نتصور .. بأننا نسمعه من الله تعالى مباشرة ، وأن الله جل جلاله يكلمنا بنفسه .. وهذا مطلوب ، وهو من أحسن القراءة .. حيث يجعل تفاعلنا مع القرآن أعمق وأثبت .

ومن جهة ثانية : نستطيع أن نكلم الله تعالى .

حينما نصلي وحينما ندعوا ونناجي الله تعالى .. فنحن نكلمه !!

أنظروا أيها الأحبة الأعزاء : الكائن الذي أصله من التراب وبدايته نطفة حقيرة .. صار كليم الله تعالى .

وهذا من الأمور التي تتجلى في صلاتنا – وبصورة خاصة في السجدتين – وهو من أسرارها !!

ففي السجدتين – حسب ما جاء في حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام : إذا سجدنا السجدة الأولى في الصلاة علينا أن نتذكر قول الله تعالى : { منها خلقناكم } أي من التراب ، وأن نتذكر إذا رفعنا رؤوسنا من السجدة الأولى نشأتنا الأولى من التراب إلى هذه الحياة ، وأن نتذكر إذا سجدنا السجدة الثانية قول الله تعالى : { وفيها نعيدكم } أي إلى الأرض والتراب بعد الموت في القبر ، وأن نتذكر إذا رفعنا رؤوسنا من السجدة الثانية قول الله تعالى : { ومنها نخرجكم تارة أخرى } أي النشأة الثانية بعد الموت في يوم القيامة ، وأن نتشهد شهادة الحق : أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عبده ورسوله .

أيها الأحبة الأعزاء : إن الكائن الذي أصله من التراب ، صار كليم الله تعالى ، وأن جسده يعود بعد الموت إلى أصله .. وهو : التراب ، ثم يبعثه الله تعالى بعد الموت ويسكنه إلى جواره في الجنة .

وبهذا نتعرف على هذه النعمة العظيمة والغاية الكبرى وما يجب علينا عمله في هذه الحياة .. وهي : الطاعة لله وعبادته سبحانه وتعالى .

ومن النعم العظيمة المتميزة التي ينعم الله تعالى بها على بعض عباده المؤمنين في يوم القيامة : أنه جل جلاله يأذن لهم بزيارته في عرشه ويكلمهم ويكلمونه .. ويضفي عليهم من نوره وبهائه .

فأية نعمة وأية غاية للإنسان أكبر وأعظم من هذه النعمة العظيمة والغاية الكبرى ؟!

مفارقة كبيرة ..

أيها الأحبة الأعزاء : ونحن نتذكر هذه النعمة العظيمة وهذه الغاية الكبرى المتميزة ، علينا أن نتذكر ظلمنا لأنفسنا حينما نعصي الله جبار السماوات والأرض .. فنكون من حطب جهنم ووقود النار .

أي ظلم للنفس أكبر من أن يورد الإنسان نفسه في واد سحيق في نار جهنم ، وفي وسعه أن يكون من أهل الجنة في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، وأن يكون من الذين يكلمهم الله تعالى ويكلمونه ؟!

للنادي جبار السماوات والأرض .. وهو الرب الرحيم ، في هذا الشهر الكريم ، في هذه الليلة .. في ليلة القدر .. وهي ليلة السلام .. بصوت عال :

ربي ظلمت نفسي فأغفر لي ..

ربنا ظلمنا أنفسنا فاغفر لنا ..

عودة إلى الهدفية ..

أيها الأحبة الأعزاء : كل شيء في هذا الوجود ينطق بحقيقة الهدفية في الحياة : من الذرة إلى المجرة ، البذرة والشجرة ، النطفة والكائنات الحية .. عقلك أيها الإنسان ينطق بهذه الحقيقة !!

حينما يتحدث العقلاء مع بعضهم : فكل واحد منهم يحاول أن يعرف صدق أو كذب الكلام الذي يسمعه من الآخرين ، وهذا يعني أنه في وجدان كل واحد منهم الإيمان الفطري بوجود حقائق فعلية وواقعية يسعى للتعرف عليها ، وأن قيمة الكلام الذي يسمعه ليست واحدة ، فهناك صدق وكذب .. وهناك حق وباطل وراء الكلام ، ويجب عليه أن يميزه في كل كلام يسمعه ، مما يدل على هدفية الحياة ، فوجود الحقائق يدل على الهدفية في الحياة ، وبدون الهدفية لا توجد أي قيمة للعقل أو الحقائق أو المباديء والقيم ، فيتساوى كلام العقلاء مع كلام المجانين ، وتتساوى الخرافة مع الحكمة ، وتتساوى جميع الصفات والمخرجات والأفعال مع بعضها !!

يتساوى القبح مع الجمال ، والحق مع الباطل ، والعدل مع الظلم ، والسعي مع الجمود ، وغير ذلك من الأفعال والصفات والنتائج والقيم المتضاربة والمتعارضة .. وهذا محال ، وهو خلاف منطق الفطرة ومنطق العقل ومنطق الحس والوجدان .. ومنطق الأشياء جميعها .

ومن هنا أيها الأحبة الأعزاء : يجب أن نتنبه لخطورة المدارس القديمة .. مثل : السفسطائية ، والجديدة .. مثل : الحداثة وما بعد الحداثة .. التي تحاول أن تنفي وجود الحقيقة وقيمة العقل ، وتجعل من الكون وحياة الإنسان وجودا عبثيا لا رسالة له ولا غاية ولا قيمة !!

فهذه المدارس في غاية الخطورة على حاضر الإنسان ومستقبله ، وليس ورائها إلا الفساد والخسران في الدنيا والآخرة ، وهي خلاف الفطرة والعقل والوجدان ورسالات الأنبياء عليهم السلام في الحياة ، ويجب علينا أن نكون في غاية الحذر منها والتعامل معها بجدية ومسؤولية كما يفرضه علينا منطق الفطرة والعقل والوجدان ومنطق الأشياء جميعها في الوجود ، وليس كما تريد هي من التعاطي غير المسؤول مع الأفكار والطروحات .

يجب علينا – أيها الأحبة الأعزاء – أن نتعاطى معها ومع كل الأفكار والطروحات بمسؤولية كاملة ، لكي ننجوا بأنفسنا ونفوز في الدنيا والآخرة .

فالحياة لم تخلق عبثا ، وأن هناك حقائق فعلية وواقعية في الوجود ، وعلينا أن نسعى بعقولنا للتعرف عليها وراء كل آية وكلام نسمعه أو نقرأه ، فإننا ميتون ومبعوثون يوم القيامة ومحاسبون .. فإما إلى الجنة أو إلى النار ، وأن جدلنا الفارغ وغير المسؤول لا يغير شيئا في هذه الحقيقة .. ولا يدفع عنا شيئا من عذاب جهنم .

فلنتقي الله تعالى في أنفسنا ، ونتعاطى بجدية في الحياة ، ولا نظلم أنفسنا بإتباع خطوات الشيطان وغرور الضالين المضلين في الأرض .

وقد أرسل الله تعالى إلينا الرسل ، وأنزل الكتب ، وأقام علينا الحجة ، وليس علينا إلا أن نتقي الله تعالى في أنفسنا ونحرص على سلامتها ، ونتعاطى بمسؤولية في الحياة .. وأن نتعرف على الحق ونتبعه .

نتائج واستحقاقات ..

أيها الأحبة الأعزاء : إن لهذه الحقيقة الكونية العظيمة .. أعني : هدفية الحياة ، نتائج مهمة واستحقاقات خطيرة تترتب عليها ، ويجب علينا أن نأخذها بعين الاعتبار ، وأن ندخلها في حساباتنا الدقيقة في التخطيط لحياتنا .. منها :

أولا : أن الحياة الدنيا لا تمثل نهاية المطاف في مسيرة الإنسان ، وأن هناك حياة خالدة أرقى من هذه الحياة ينتقل إليها الإنسان بعد الموت ، وأن حياته في النعيم أو العذاب هناك : هي تجسيد لحقيقته الفعلية التي تكونت نتيجة لأفكاره وسلوكه في هذه الحياة الدنيا ، وبدون الإيمان بالحياة الآخرة يستحيل إثبات قيمة هدفية الحياة الدنيا أو تستقيم الدلالة على هدفية الحياة التي تنطق بها الفطرة والوجدان وجميع الأشياء التي ندركها ونتعامل معها في عالم الوجود .

قال الله تعالى : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون } ( المؤمنون : 115 ) .

وقال الله تعالى : { وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون } ( الجاثية : 22 ) .

وقال الله تعالى : { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين . ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون . إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين } ( الدخان : 38 – 40 ) .

فهذه الآيات الشريفة المباركة .. وغيرها الكثير ، تؤكد على العلاقة وعدم الفصل بين الهدفية في الحياة ووجود القيامة واليوم الآخر . وهذا – أيها الأحبة الأعزاء – يفرض علينا : أن نعمل من أجل ترتيب أوضاعنا في الآخرة لتكون على أحسن وأفضل وجه .. كما نسعى بالفطرة والوجدان لترتيب أوضاعنا في الحياة الدنيا ، وأن العقل والدين يحكمان بأن تكون عنايتنا واهتماماتنا بالآخرة .. وهي دار الخلود والبقاء ، أكثر من عنايتنا واهتماماتنا بالدنيا .. وهي دار الزوال والفناء .

ثانيا : يجب علينا أن نهتم في حياتنا بالمعالي والأمور الكبيرة .. لا أن نضيع حياتنا في اللهو واللعب والأمور الصغيرة والتافهة .

يجب علينا أن نكون أناسا كبارا في تفكيرنا وفي اهتماماتنا ومشاغلنا وسلوكنا في الحياة .. لا أن نكون صغارا وحقيرين في حياتنا ، ولا يجوز لنا أن نستصغر أنفسنا أو نستصغر أحدا من العباد ، فالإنسان خليفة الله تعالى في أرضه ، والإنسان المؤمنين مصنوع على عين الله تعالى ووفق منهجه العظيم في الحياة .

فالإنسان – أيها الأحبة – كائن كبير وعظيم في نفسه ، ويجب عليه أن يكون كبيرا وعظيما بإرادته في تفكيره واهتماماته ومواقفه ، لا ترهبه قوة طاغية أو مستبد حقير في الأرض ، ولا يستكثر على نفسه أن ينطق بالحق ويطالب بالعدل .. ويعمل بهما ، ويتخذ المواقف الصائبة القوية في ذات الله تعالى ، فهو إنما خلق لذلك ، وما لم يكن كذلك ، فهو لم يعرف قيمة نفسه وغاية وجوده ، وهو من الظالمين لأنفسهم .. وويل له من عذاب يوم عظيم .

أيها الأحبة الأعزاء : إن الإنسان الكبير .. هو الإنسان : الذي يشغل تفكيره واهتمامه بالقضايا الكبيرة في الحياة .. مثل : الدعوة إلى الله تعالى وإصلاح المجتمع وقضاء حوائج الناس .. وليس هو الإنسان الأناني المشغول بنفسه عن دينه ومجتمعه وإخوانه من البشر .

وهو الإنسان : الذي يتحلى بالأخلاق الحسنة ويعمل بالقيم العالية في الحياة .. مثل : التواضع والمحبة والتسامح مع الآخرين ، وليس الأناني والحاقد والمتكبر على العباد ، أو الذي يمارس الغيبة والكذب ، وليس هو البخيل أو الجبان ، أو المتصف بغير ذلك من الصفات القبيحة ، أو الذي يمارس الأعمال الدنيئة .

إن من يمارس الغيبة والكذب ويتصف بالأخلاق السيئة .. مثل : الحقد والحسد والعصبية الجاهلية ، هو إنسان صغير وحقير . أما الإنسان الكبير : فهو إنسان متسامح وصادق وعفيف ويتحلى بالشجاعة والكرم والغيرة على الحق والعدل ومصالح العباد .. وغيرها من الصفات الجميلة ، ويقوم بالأعمال الشريفة ذات القيمة العالية .. وفق القيم والمباديء الإنسانية الرفيعة في الحياة .

ثالثا : لكي يكون الإنسان كبيرا يجب أن يخضع للتربية وأن يصبر عليها .

الإنسان لا يولد كبيرا .. وإنما يتربى ليكون كبيرا .

ومن وسائل التربية الربانية : الصلاة والصيام والحج والزكاة .. وجميع العبادات التي فرضها الله تعالى على عباده .. أو ندبهم إليها .

أيها الأحبة الأعزاء : إن من نعم الله تعالى العظيمة علينا ، أن جعل لنا عبادات وشعائر ومعالم في الزمان والمكان تدلنا عليه .. وتقودنا إليه ، وتوفر لنا فرص التكامل الإنساني والقرب والزلفى لديه ..

من العبادات والشعائر : الصلاة والصيام والحج والزكاة ، ويجب علينا أن ننظر إليها ونتعامل معها على أنها وسائل إلى التربية ومعارج في سلم الكمال الإنساني .. والقرب إلى الله تعالى ، وأن قيمتها فيما تتركه في أنفسنا من آثار ايجابية في هذا الطريق .. لا أن ننظر إليها ونتعامل معها على أنها مجرد طقوس جوفاء خالية من المعنى والأثر ، فنخسر فائدتها ونتائجها الطيبة في الدنيا والآخرة .

ومن معالم المكان .. المساجد : إن المساجد لا تختلف في الظاهر عن سائر المباني على وجه الأرض ، ولكن حين ننسب المكان إلى الله تعالى أو ينسبه هو إلى نفسه .. مثل : الكعبة .. فإن الأمر يختلف تماما .

حينما ننسب المكان إلى الله تعالى – وقد قبل الله تعالى منا ذلك – أو ينسبه هو إلى نفسه .. فإن المكان يتحول إلى ساحة مطهرة من ساحة القدس الإلهي ، وتكون لهذا المكان أحكامه الخاصة التي تميزه عن سائر المباني والأماكن على وجه الأرض .. وهي تتفاوت في فضلها ومكانتها : فالمسجد الجامع أفضل من المسجد العادي ، وللمسجد النبوي الشريف والمسجد الأقصى ومشاهد الأئمة عليهم السلام .. أفضل على سائر المساجد ، والمسجد الحرام هو أفضل المساجد جميعا .

أيها الأحبة الأعزاء : أليس من النعم العظيمة أن تتحول بقعة من بقاع الأرض إلى ساحة مطهرة من ساحات القدس الإلهي ؟!

الجواب بالتأكيد .. نعم : وإن المعرفة بهذه النعمة العظيمة تحتم علينا أن نجنب هذه الأماكن اللهو واللعب .. وكل ما لا يليق بها ، وأن نقدر أحكامها الخاصة وآدابها التي يفصلها الفقهاء ( رضوان الله تعالى عليهم ) في كتب الفقه ، وأن نعمل بتلك الأحكام والآداب في التعامل مع هذه الأماكن المقدسة العظيمة .. لا أن نتجاهلها أو نغفل عنها .

يقول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ( بما معناه ) : جلوسي في المسجد أحب إلي من جلوسي في الجنة ، لأن جلوسي في الجنة فيه رضا نفسي .. وجلوسي في المسجد فيه رضا ربي .
صدق أمير المؤمنين عليه السلام .

ومن معالم الزمان : من الأوقات : أوقات الصلاة ، ومن الأيام : يوم الجمعة والعشر الأول من شهر ذي الحجة ، ومن الشهور : شهر رمضان المبارك .

وقلب شهر رمضان – أيها الأحبة الأعزاء – ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر .. وهي هذه الليلة التي نعمل على إحيائها الآن – إن شاء الله تعالى .

أوجه التسمية بليلة القدر ..

يذكر العلماء وجهين لتسمية ليلة القدر ..

الوجه الأول : أن الله تعالى يقدر فيها كل شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها في السنة التالية : من خير وشر ، وطاعة ومعصية ، ومولود وأجل ورزق .. وغيره ، وأن الملائكة تتنزل بذلك كله على ولي الله الأعظم في كل زمان : منذ آدم عليه السلام وإلا أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها ، وأن صاحبها في هذا الزمان .. هو : الحجة بن الحسن العسكري ( أرواحنا لتراب مقدمه الفداء ) ، مع التأكيد على أن ما قدر في تلك السنة وقضي .. فهو المحتوم ، ولله عز وجل فيه المشيئة .

ويقوم هذا الوجه على أساس الأصل اللغوي لمعنى القدر ..

تقول : قدر الشيء قدرا : بين مقداره ، وقدر الأمر : دبره وفكر في تسويته .

قال الله تعالى : { فيها يفرق كل أمر حكيم } ( الدخان : 4 ) .

أما الدرس المهم الذي يجب أن نتعلمه من هذا الوجه .. فهو : أن نعطي ولائنا المطلق لولي الله الأعظم عليه السلام .. ولمنهجه في الحياة ، وأن نتعلق بهما كمال التعلق ، وأن لا نخرج عنهما ولا نخالفهما في شيء قيد شعرة .. ما استطعنا إلى ذلك سبيلا .

الوجه الثاني : أن الأرض تضيق بتزاحم الملائكة فيها .

فلو مد الله تعالى في أبصارنا في هذه الليلة العظيمة : لرأينا ملاحم ملكوتية .. عظيمة .. عظيمة .

لو مد الله تعالى في أبصارنا في هذه الليلة العظيمة : لرينا ملائكة تنزل وملائكة تصعد في مهام جدية عديدة من عند الله تعالى .

قال الله تعالى : { وما أدراك ما ليلة القدر . ليلة القدر خير من ألف شهر . تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر . سلام هي حتى مطلع الفجر } ( القدر : 2- 5 ) .

وهناك قطعا من يرى ليلة القدر من عباد الله الصالحين .. من غير المعصومين عليهم السلام ، وهذا ينبغي أن يكون من طموح كل مؤمن في هذه الليلة العظيمة .

ويقوم هذا الوجه على أساس أصل لغوي آخر .. يأتي فيه : القدر بمعنى الضيق .

قال الله تعالى : { وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانني } . ( الفجر : 16 ) .

فقدر عليه رزقه .. يعني : ضيقه عليه .

أيها الأحبة الأعزاء : إذا كان كل شيء يقدر في هذه الليلة .. عظيمة الشأن والقدر : أي المكانة ، وأن الملائكة تتزاحم في هذه الليلة على الأرض حتى تضيق بهم .

ومن المهام الموكلة إلي الملائكة عليهم السلام في هذه الليلة المباركة العظيمة : رفع العمل والدعاء إلى السماء .. مما يفيد القبول والاستجابة ، وهذا من فضل وبركات هذه الليلة .. وأحد أسباب تميزها ، فعلينا أن نتعامل بجدية ومسؤولية متميزة مع هذه الليلة الشريفة العظيمة المتميزة .. تتناسب مع فضلها وتميزها على سائر الليالي والأيام .

إن هذه الليلة المباركة يمكن أن تكون لأحدنا نقطة تحويل كبيرة جدا في حياته .. وذلك : إذا وفق إلي شيء من العمل الصالح والدعاء الصادق فيها .

فمن الممكن أن ينتقل الإنسان في هذه الليلة : من الضيق إلى السعة ، ومن الشقاء إلى السعادة ، ومن النار إلى الجنة ، ومن منزلة كبيرة إلى منزلة أكبر ..

ويمكن للمؤمن في هذه الليلة أن يقطع مسافة الألف ميل في لحظة واحدة .

وكما قلت مرارا في مناسبات سابقة .. وأكرر في هذه المناسبة : أن قيمة العقل – أيها الأحبة – ليس في دخول الإنسان العاقل الجنة ، وإنما في الوصل إلى الدرجات العالية فيها ، لأن الأطفال الذين يموتون ولا عمل لهم يدخلون الجنة ، والمجانين الذين لا يعقلون يدخلون الجنة ، والمستضعفين الذين لا يهتدون إلى الحق بسبب قصورهم لا تقصيرهم يدخلون الجنة ، كلهم يدخلون الجنة برحمة الله سبحانه وتعالى وإحسانه .

أما الإنسان العاقل البالغ : فيجب أن يكون طموحه وعمله من أجل الوصول إلى أعلى الدرجات والقرب من الله تعالى في الجنة ، وليلة القدر من الفرص الثمينة جدا التي جعلها الله تعالى لنا لبلوغ ذلك الهدف العظيم ، ويجب علينا أن نحسن استثمارها من أجل بلوغ ما خلقنا من أجله في هذه الحياة ، لا أن نغفل عنها ونشغل أنفسنا بالأمور التافهة فتفوت علينا ونظلم بذلك أنفسنا ، وتصيبنا الحسرة والندامة يوم القيامة .. يوم لا ينفع الندم .

علينا – أيها الأحبة الأعزاء – أن نتوجه إلى الله تعالى بالحمد والثناء عليه إذ جعل لنا ليلة القدر ، ونسأله بأسائه الحسنى ونعمه التي لا تحصى .. وبما إذا سؤل به أجاب : أن يوفقنا لإحيائها والقيام فيها ، ويرزقنا فيها صدق النية ، وأن يجعلنا فيها على أفضل حال يرضاه لأهل طاعته من عباده الصالحين .. إنه سميع مجيب الدعاء .

وسوف يكون برنامج عملنا في هذه الليلة العظيمة المباركة كالتالي ..

أكتفي بهذا المقدار ..
وأستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم ..
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.