محاضرات وندوات عام 2006

كلمة الخميس (2 ) بعنوان : ابتلاء المؤمنين

الموضوع : كلمة للأستاذ عبد الوهاب حسين .
العنوان : ابتلاء المؤمنين .
المكان : مسجد الشيخ خلف ـ قرية النويدرات .
الزمان : بعد صلاة الظهرين .
اليوم : الخميس .
التاريخ : 2 / صفر / 1427هـ .
الموافق : 2 / مارس ـ آذار / 2006م .

أعوذ بالله السميع العليم ، من شر نفسي الأمارة بالسوء ، ومن شر الشيطان الرجيم .
بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله رب العالمين .

اللهم صل علي محمد وآل محمد ، وارحمنا بمحمد وآل محمد ، وأهدي قلوبنا بمحمد وآل محمد ، وعرف بيننا وبين محمد وآل محمد ، وأجمع بيننا وبين محمد وآل محمد ، ولا تفرق بيننا وبين محمد وآل محمد طرفة عين أبدا في الدنيا والآخرة يا كريم .
اللهم معهم .. معهم .. لا مع أعدائهم .

السلام عليكم أيها الأحبة ، أيها الأخوة والأخوات في الله ، ورحمة الله تعالى وبركاته .

قال الله تعالى : { أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } ( العنكبوت : 2ـ3 ) .

معاني المفردات :
أحسب الناس : أظنوا .
الفتنة : الابتلاء والامتحان والاختبار .

في الآيتين الشريفتين المباركتين اللتين تلوتهما وهما ( 2 ـ 3 ) من سورة العنكبوت ثلاث نقاط رئيسية .. وهي :

النقطة الأولى : أن الإيمان حقيقة وليس ادعاء ، وأن الذي يكشف حقيقة الإيمان ويجعله حقيقة فعلية قائمة ، ويجعل بينه وبين الإدعاء حدا فاصلا .. هو الابتلاء . فالابتلاء هو الذي يميز .. مثلا : بين المخلصين والمنافقين ، وبين الراسخين في الدين والمتزلزلين فيه ، وذلك بظهور آثار صدق الصادقين كالصبر والثبات والاستقامة الملازمة لصدق واستقرار الإيمان في قلوبهم الطاهرة ، وبظهور آثار كذب الكاذبين في دعوى الإيمان كالجزع والخيانة والاهتزاز في المواقف وتبديل القول والميل عن الصراط المستقيم ومداهنة الظالمين والمستكبرين . ولولا الابتلاء لتساوى جميع من يدعي الإيمان من الأولياء الصالحين الصادقين والفاسقين والمنافقين الكاذبين .. وهذا خلاف الواقع والعدل والحكمة .

قال الله تعالى : { وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } ( آل عمران : 154 ) .

وقال الله تعالى : { مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } ( آل عمران : 179 ) .

وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : ” في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال ، والأيام توضح لك السرائر الكامنة ” ( البحار . ج77 . ص 288 ) .

النقطة الثانية : أن الابتلاء سنة جارية في المؤمنين من أول الدنيا إلى آخرها ، فهي ليست خاصة بهذه الأمة المرحومة ، وليست خاصة بزمان معين فيها ، فقد كانت في أمم الأنبياء السابقين ( عليهم أفضل الصلاة والسلام ) وهي باقية في المؤمنين من هذه الأمة إلى يوم القيامة ، وذلك لأنها مبنية على الحكمة البالغة لله ( تبارك وتعالى ) في خلقه ، فلا ينبغي لأحد من المؤمنين أن يتوقع خلافها .

النقطة الثالثة : أن تمييز الصادقين في إيمانهم من الكاذبين ، هي أحدى غايات الابتلاء العظيمة التي تقتضيها الحكمة الإلهية البالغة في الخلق ، وذلك لعدة أسباب .. منها :

السبب الأول : أن كل شيء يجب أن ينتهي إلى الله ( الحق ) في نهاية المطاف أو المسير إليه ( جل جلاله ) بحقيقته الفعلية الواضحة الجلية ، وليس بظاهره المزور أو الغامض ، فيجب أن تتميز عند الله ( الحق ) حقيقة الإيمان ، وأن يخرج عن حال الإبهام إلى حال الصراحة من خلال الابتلاء .

السبب الثاني : أن السعادة المرجوة للمؤمنين ، والجزاء في يوم القيامة ، إنما يترتبان على حقيقة الإيمان لا على دعواه مجردا عن الأفعال والآثار الإيجابية الظاهرة له .. مثل : الاستقامة والثبات والصبر على الطاعة والصبر عن المعصية والصبر على المكاره ، ولا تتجلى حقيقة الإيمان إلا بالابتلاء .

وسوف أتناول في نهاية الحديث بالبحث غايات أخرى .

أيها الأحبة الأعزاء : بعد الإشارة إلى النقاط الثلاث الرئيسية التي تضمنتها الآيتين الشريفتين المباركتين وفي ظلهما ، سوف أتناول بالبحث ثلاث مسائل رئيسية أرى أهميتها في حياتنا الفكرية والعملية .. وهي :

المسألة الأولى ـ حقيقة الابتلاء : إن الإيمان هو في الحقيقة عبارة عن ( عقيدة وشريعة وقيم ) يترتب عليها سلوك ومواقف في الحياة .. والمطلوب من المؤمنين : الاستجابة العملية لأمـر اللـه ( تبارك وتعالى ) ونهيه ، وأن يكون سلوكهم ، وتكون مواقفهم في الحياة ، تعبيرا صادقا ودقيقا عن الإيمان . وحقيقة الابتلاء تتمثل في وجود عوامل كالخوف والطمع والضعف والتعصب الأعمى ، تجعل السلوك والمواقف بعيدة عن الإيمان وغير معبرة عنه بدقة وصدق ، وأن على الإنسان المؤمن مواجهتها والتغلب عليها ، من أجل إثبات حقيقة الإيمان في نفسه ، وإظهار آثاره الإيجابية البناءة في الحياة .

قال الله تعالى : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ . إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ . ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } .
( آل عمران : 152 ـ 154 ) .

مفهومان للواقعية : وبهذه المناسبة أذكر مفهومين للواقعية .. وهما :

المفهوم الأول ـ الواقعية لدى المؤمنين الصادقين : وتعني مراعاة عناصر الواقع في العمل من أجل تحقيق الأهداف الرسالية ، وتطبيق الأحكام الشرعية وتجسيد المبادئ والقيم في الحياة .. أي أنها تعني : الانطلاق من الأحكام والمبادئ والقيم ، مع مراعاة عناصر الواقع والسعي لتطويعها من أجل تحقيق الأهداف .

المفهوم الثاني ـ الواقعية لدى النفعيين الكاذبين : وتعني الركون إلى الذات والواقع والمصالح الخاصة : الشخصية أو الحزبية أو الفئوية أو الطائفية وغيرها ، والوقوع في أسرها ، والانطلاق منها في العمل أو الحركة ، والسعي لتطويع الأحكام والمبادئ والقيم من أجلها .. أي أنها تعني : الانطلاق من الذات والواقع والمصالح ، والسعي لتطويع الأحكام والمبادئ والقيم من أجل ذلك .

والخلاصة : أن المؤمنين الصادقين ينطلقون في عملهم من المبادئ والقيم مع مراعاة عناصر الواقع ، بينما ينطلق النفعيون من الذات والمصالح المادية ، ويسعون لتطويع القيم والمبادئ والأحكام من أجلها .. وهذا هو الفرق بين الفريقين .

المسألة الثانية ـ أشكال الابتلاء : الابتلاء لا يأتي في شكل واحد ، وإنما يختلف باختلاف الزمان والمكان والأشخاص . فحينما تكون البيئة الاجتماعية فاسدة ، ويكون هناك انحراف وإغراء للإنسان بالسير وراء المال والشهوات والرغبات الجنسية وغيرها ، فإن ذلك الوضع يكون هو موضوع الابتلاء للإنسان المؤمن ، وهو مطالب بالاستقامة على منهج الدين الحنيف في هذا المجتمع الفاسد . وحينما يكون هناك فقر ومرض وأخطار محدقة بالمجتمع والأفراد ، يكون ذلك هو موضوع الابتلاء للإنسان المؤمن ، وهو مطالب بالمحافظة على دينه وطاعة ربه ، بالصبر عليها وعدم الاستسلام إليها بالجزع أو الانحراف عن الدين تحت ضغوطاتها وصعوباتها . وحينما يكون الإنسان المؤمن واقعا تحت حكم الطاغوت أو قوى الاستكبار العالمي ، فهو إما أن يخضع لهم ويكون أحد عملائهم أو المسايرين لهم تحت تأثير الخوف على المال أو النفس أو الأهل والأحباب أو تحت تأثير الطمع في المال والجاه والسلطة أو الرغبة في الدعة والعافية .. لا سيما مع ضعف القوة وقلة الناصر ، وإما أن يهرب من حكم شيطان إلى حكم شيطان آخر أكبر منه يمتلك القوة والحكم على الرقاب ، رغبة في المال والجاه والسلطة وحطام الدنيا وزخارفها تحت عناوين مخادعة ، ضاربا بالفضيلة والقيم الدينية والإنسانية والوطنية عرض الحائط ، وإما أن يقاوم بعزم وقوة وثبات واستقامة ، متمسكا بإيمانه وتقواه وطهارته وحريته وقيمه وثوابته الدينية والإنسانية والوطنية ، معتمدا في ذلك على لطف الله ( تبارك وتعالى ) ورحمته الواسعة .. كما هو مطلوب منه عنده ( جل جلاله ) .

كما يختلف شكل الابتلاء باختلاف الأشخاص : فحينما يكون الشخص غنيا وقويا ، يكون ذلك موضوع ابتلاء بالنسبة إليه ، فهل يؤدي حق هذه النعمة أم أنه يطغى فيها ويظلم الناس بسببها . والتاجر مبتلى في تجارته من جهة مراعاة العدل والإنصاف والقناعة في الأسعار والوفاء بالكيل والميزان وعدم الغش وغير ذلك . والمفكر مبتلى من جهة حرصه على اكتشاف الحقيقة والصدع بها إلى الناس ، فهل يلتزم بذلك ، أم يكون أسير التعصب الأعمى والألقاب الزائفة والسمعة ، فيزور الحقيقة لكي تتناسب مع هواه وانتمائه الديني أو العرقي أو الطبقي أو مع مصالحه .. إذا كانت له مصلحة ، أو لكي يقال عنه أنه معتدل ومنفتح وليس متعصبا أو متطرفا ، أو يقال عنه أنه صلب وشجاع وغير ذلك من وساوس الشيطان الرجيم . والخطيب مبتلى من جهة حرصه على قول الحقيقة إلى الناس وأن لا يغير فيها تحت تأثير الخوف أو الطمع وأن لا يقول في العلم بغير علم . والمستمع أو المتلقي مبتلى من جهة التدقيق في ما يسمع أو يقرأ والاقتناع به على أساس مطابقته للحق والعدل وليس لهواه ورغباته فيقبل القول أو الفكرة من فلان لأنه يؤيده ويحبه ويرفضهما من فلان لأنه لا يؤيده ولا يحبه فتضيع بذلك الحقيقة وتضيع المواقف الصادقة والعادلة . والقيادي مبتلى في مواجهة الضغوط العملية بالمحافظة على المواقف الـرسالية المطلوبة ( فعلا ) لمرضاة الله ( تبارك وتعالى ) وخدمة القضايا ومصالح الناس الجوهرية وعدم الخضوع للأهواء والرغبات الذاتية وعوامل الضعف والعقد النفسية الخاصة . والتابع من النخب المتقدمة مبتلى في طبيعة الانقياد للقيادة ، فهل يتمرد على القيادة المؤمنة التي تتحلى بالشرعية وتتوفر فيها كافة الشروط الموضوعية كالكفاءة تحت تأثير الأهواء والمزاج والمصالح الخاصة ، أو يروج لقيادة لا تتحلى بالشرعية أو لا تمتلك الكفاءة المطلوبة لخدمة الأهداف والقضايا الدينية والوطنية ، فيجعل بذلك الأشخاص فوق الأهداف والقضايا من أجل إتباع الهوى أو العافية ، أو خوفا من المتعصبين ، أو خوفا من إهمال عامة الناس وابتعادهم عنه ونفورهم منه ، فلا يبقى حوله إلا القليلون الذين يشعرون بقيمة الحق الذي معه ولا يخافون ولا يطمعون ، أو من أجل تصفيق الجماهير وتحصيل المجد والسمعة ، أو من أجل الزعامة والرئاسة ، مخالفا بذلك مقتضى التوحيد والحكمة . والنقطة الخيرة في غاية الدقة والخطورة والأهمية ، وقد يغفل عنها الكثير من الناس لدقتها وخفائها وطيبتهم ووفائهم ، وهي من أهم ما ينبغي عليهم الالتفات إليه ، بحسب مقتضى عقيد التوحيد ، وآداب ومبادئ وقيم الشريعة الإسلامية المقدسة ، ومن اجل النجاح في تحقيق الأهداف الرسالية المقدسة العظيمة .

قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) مخاطبا سفيان بن خالد : ” يا سفيان إياك والرئاسة ، فما طلبها أحد إلا هلك . فقال سفيان : جعلت فداك قد هلكنا إذا ، ليس أحد منا إلا وهو يحب أن يذكر ويقصد ويؤخذ عنه . فقال ( عليه السلام ) : ليس حيث تذهب إليه ، إنما ذلك أن تنصب رجلا دون الحجة فتصدقه في كل ما قال ، وتدعو الناس إلى قوله ” .
( البحار . ج2 . ص 83 ) .

أيها الأحبة الأعزاء : في نهاية الحديث عن أشكال البلاء ، أرغب في التذكير والتنبيه إلى آخر وأخطر وأهم ابتلاء يمر به الإنسان في حياته ، وتتجلى فيه حقيقة الإنسان وخلاصة تجربته الإيمانية في الحياة الدنيا ، وتنغلق أمامه كل أبواب الخداع والتمويه والمراوغة واللف والدوران ، ويتحدد مصيره النهائي في الآخرة .. إنها فتنة سكرات الموت .

أيها الأحبة الأعزاء : لقد وصف ألم النزع الذي يهجم على الإنسان عند خروج الروح في أحاديث أهل البيت ( عليهم السلام ) بأنه أشد من النشر بالمناشير والقرض بالمقاريض ، وقد روي عن الرسول الأعظم الأكـرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه قال : ” اللهم هون علي سكرات الموت ” وأن عيسى بن مريم ( عليه السلام ) قال : ” يا معشر الحواريين ادعوا الله تعالى أن يهون علي هذه السكرة “

قال الله تعالى : { وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } ( ق : 19 ) .

أيها الأحبة الأعزاء : ما لم يكن الإيمان صادقا ، وما لم يكن السلوك وتكن المواقف معبرة بصدق عن الإيمان ، وكانت تعتمد على المراوغة واللف والدوران والخداع والتبرير ، فإن هذا الإيمان المراوغ لن يصمد أمام سكرات الموت ، وسوف ينساه صاحبه ، ويذهب إلى الله ( جل جلاله ) بحقيقة ما كان عليه من الكذب والخداع مع الناس في الحياة الدنيا .

قال الله تعالى : { هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } ( يونس : 30 ) .

المسألة الثالثة ـ غايات الابتلاء : أشار القرآن الكريم إلى غايات عديدة للابتلاء في الحكمة الإلهية البالغة .. منها :

الغاية الأولى ـ العروج بالإنسان المؤمن في سلم الكمال الإنساني : وذلك من خلال الصراع العنيف بين نفسه الأمارة بالسوء وعقله الذي يأمره بالحق والعدل والسمو إلى أفق عالم الروح ، مما يدفعه ( في حالة انتصار العقل على النفس ) إلى الفكر الأعمق والأدق ، والخلق الأحسن والأسمى ، والعمل الصالح الأفضل ، مما يعني ارتقاء الإنسان في سلم الكمال الإنساني ، وأن درجة كماله تتحدد بمقدار انتصاره ، وقد حدثنا القرآن الكريم عن هذه الغاية من البلاء في مواضع كثيرة .

قال الله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } ( الكهف : 7 ) .

وقال الله تعالى : { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ }
( الملك : 2 ) .

وقد سئل الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن معنى : { أيكم أحسن عملا } فقال : ” أيكم أحسن عقلا ” ( من وحي القرآن . ج23 . ص13 )

وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ” أصوبكم عملا ، وإنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة ” ( نفس المصدر . ص 14 ) .

وقد ذكرت قبل قليل في توضيح حقيقة الابتلاء ، أن الإيمان عـبارة عن ( عقيدة وأحكام وقيم ) يترتب عليها سلوك ومواقف في الحياة ، وهذا يعني أن الارتقاء في سلم الكمال يتوقف على أمرين رئيسيين .. هما : العلم والعمل . فكلما كثر علم الإنسان وعمل بما يعلم زاد كماله ، ولا يمكن الارتقاء في سلم الكمال بدونهما .

وهنا أشير إلى ثلاث حقائق رئيسية .. وهي :

الحقيقة الأولى : لا يمكن تحصيل العمل الصحيح بدون علم صحيح ، وأن العلم هو الذي يمنح العمل صوابه وقيمته والنتائج المترتبة عليه في الدنيا والآخرة .. فالعبرة إذن : في كيفية العمل ، وليس في الكثرة والكمية ، ليكون العمل خالصا لوجه الله ( تبارك وتعالى ) ونافعا لعباده ” ليتصاعد العمل في درجته من خلال نمو الإنسان في وعيه وعقله وانفتاحه على أسرار العقيدة ” ( من وحي القرآن . ج23 . ص 14 ) .

الحقيقة الثانية : أن الإنسان إذا تعلم وعمل بما يعلم ، زادت درجته في الكمال الإنساني ، وإذا خالف علمه إرتكس إلى الأسفل وسقط في جهنم أجارنا الله العظيم الرحيم وإياكم منها .

قال المسيح عيسى بن مريم ( عليه السلام ) : ” من علم وعمل فذاك يدعى عظيما في ملكوت السماء ” ( البحار . ج2 . ص 38 ) .

وقال الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ” من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعدا ” ( البحار . ج2 . ص 37 ) .

وقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ” العلماء رجلان : رجل عالم آخذ بعلمه فهذا ناج ، ورجل تارك لعلمه فهذا هالك ، وإن أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه ، وإن أشد أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبدا إلى الله سبحانه فاستجاب له وقبل منه ، فأطاع الله فأدخله الله الجنة ، وأدخل الداعي النار بتركه علمه ” ( البحار . ج2 . ص 34 ) .

الحقيقة الثالثة : كلما زادت درجت الإنسان من الكمال الإنساني زادت درجة بلاؤه ، وهكذا حتى يبلغ ذروة ما هو مستعد له من الكمال والسعادة .

سئل الرسول الأعظم الكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من أشـد الناس بلاء في الدنيا فقال : ” النبيون ثم الأمثل فالأمثل ، ويبتلى المؤمن بعد على قدر إيمانه وحسن عمله ، فمن صح إيمانه وحسن عمله اشتد بلاؤه ، ومن سخف إيمانه وضعف عمله قل بلاؤه ” .
( الكافي . ج2 . ص 252 ) .

الغاية الثانية ـ التذكير بالله تعالى : فقد يغفل الإنسان عن الله ( تبارك وتعالى ) ويتمرد على أمره ونهيه ، فيكون في ذلك هلاكه وشقاؤه في الدنيا والآخرة ، وهو خلاف غاية وجوده ، فينزل الله ( تبارك وتعالى ) البلاء ، من أجل أن يعود الإنسان إلى أصل فطرته ، ويعلم بأن لا ملجأ له ولا مهرب ولا راحم إلا الله ( جل جلاله ) فيرجع عن تمرده بالطاعة والاستكانة إليه ، فتكون في ذلك نجاته وسعادته في الدنيا والآخرة ، وتتحقق بذلك غاية وجوده .

قال الله تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } .
( الأعراف : 130 ) .

وقال الله تعالى : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } .
( السجدة : 21 ) .

وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : ” إذا رأيت الله سبحانه يتابع عليك البلاء فقد أيقظك ، وإذا رأيت الله سبحانه يتابع عليك النعم مع المعاصي فهو استدراج لك ” ( غرر الحكم ) .

الغاية الثالثة ـ تمييز الصادقين من الكاذبين : وذلك من خلال الثبات على أحكام الدين وقيمه ومبادئه ، في مواجهة المواقف والتجارب الصعبة في الحياة ، وعدم الاهتزاز في الفكر والمواقف والعلاقات الإستراتيجية مع الأصدقاء والأعداء ، واللجوء إلى المراوغة واللف والدوران للتهرب من المسؤولية الرسالية أمام الله ( جل جلاله ) فيما يأمر به وينهى عنه ، ويدل الثبات على ترجيح الإيمان والآخرة على الدنيا ، والاستعداد لتقديم التضحيات العظيمة بكل أريحية في سبيلهما .

قال الله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } ( التوبة : 16 ) .

وقال الله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } .
( محمد : 31 ) .

وقال الله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } ( آل عمران : 142 ) .

وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : ” لتبلبلن بلبلة ، ولتغربلن غربلة ، حتى يعود أسفلكم أعلاكم ، وأعلاكم أسفلكم ، وليسبقن سباقون كانوا قصروا ، وليقصرن سباقون كانوا سبقوا ” ( البحار . ج5 . ص 218 ) .

الغاية الرابعة ـ الأعداد والتأهيل لحمل الرسالة : فالإيمان أو الرسالة أمانة الله ( تبارك وتعالى ) في الأرض ، لا يحملها إلا من هم أهل لحملها ، وهم يتصفون بالإخلاص والكفاءة والقدرة على حملها ، فلا يؤثرون الدنيا على الآخرة ، ولا الراحة على الجهاد ، وليس لهم من هم إلا العمل بما يرضي الله ( تبارك وتعالى ) والسير في طريق هدايته ، وتطبيق الرسالة والعمل بها في الحياة العامة والخاصة ، وهذا يحتاج إلى تأهيلهم التأهيل المناسب ليكونوا من جنس الرسالة وفي عليائها : الفكري والروحي والأخلاقي والسلوكي وفي كافة مواقفهم ، والسبيل إلى التأهل الفعلي هو الابتلاء ، والدليل عليه هو الصبر على البلاء من كافة الجوانب .

قال الله تعالى : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } ( البقرة : 124 ) .

فقد تم تأهيل نبي الله إبراهيم ( عليه السلام ) لمقام الإمامة العظيم من خلال الابتلاء ، وهذا يدلنا على أمور عديدة مهمة في القيادة .. منها :

الأمر الأول : أهمية التجربة في تأهيل القيادات .
الأمر الثاني : أن لا يعطى أحد من المسؤولية العامة : الدينية والاجتماعية ، أكثر من مؤهلاته التي تثبتها التجارب .
الأمر الثالث : أن إعطاء المسؤولية أكثر من المؤهل هو بخلاف المنهج الإسلامي ، وأنه يؤدي إلى نتائج عكسية مضرة بالرسالة والمصالح الاجتماعية للناس ، وهذا مما ينبغي أن يحذر منه المؤمنون الصادقون كل الحذر ولا يقربوه .
الأمر الرابع : أن المؤمنين الصادقين ( بحسب مقتضى إيمانهم ) لا يتقدمون على من هو أعلم منهم وأكفأ في هداية الناس وقيادتهم إلى الله ( تبارك وتعالى ) وتدبير شؤونهم ، ولا يأخذوا الأمر غلابة ، ولا يأخذوا الدين إلا من أئمة الهدى ( عليهم السلام ) .

أيها الأحبة الأعزاء
أكتفي بهذا المقدار
واستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم
واستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.