فهرس خطب الجمعة عام 2002

خطبة الجمعة بتاريخ 27-09-2002

نص الكلمة التي ألقاها الاستاذ بتاريخ 27 سبتمبر 2002 م

الخطبة الدينية : المشروع الإلهي العبادي
الخطبة السياسية : أضواء على المقاطعة – العمل المؤسساتي – دور الجماهير

( توجهت إلى عظمة الملك في ندوة نادي العروبة ، وأتوجه في هذا اليوم ، ومن هذا المنبر ، لعظمة الملك ، وبرغبة صادقة ، بأن يتخذ القرار الشجاع بتأجيل الانتخابات ، والدخول في حوار وطني مع القوى السياسية ، على أساس دستور 73 ، وميثاق العمل الوطني ، هذا ما تتطلبه المصلحة الوطنية ، وإنقاذ مشروع الإصلاح لعظمة الملك ، وأقدر بأن عظمة الملك يمتلك من الشجاعة والمرونة والأفق الواسع ، ما يشجعه ويحمله على الخروج على المألوف في السياسة التقليدية .. أنا واثق من ذلك )

( من يدعو للمشاركة أسس هو بنفسه لكي يدين نفسه تاريخيا ووطنيا ، لأنه في الوقت الذي يعترف بخطأ الوضع الدستوري والسياسي في البلد ، وعدم إمكانية التغيير من الداخل ، يقول بالمشاركة ويدعو إليها ، فهو يقوم بهذه المشاركة بترسيخ هذا الوضع الخاطئ ، وإعطاء الشرعية له ، ويضعف الحركة التصحيحية ، وباختصار شديد : أن المنطق القوي للمقاطعة يتطلب عدم المشاركة لا ترشيحا ولا انتخابا لأي كان ، ولأي سبب ، وهو الذي – حسب تقديري – يخدم المصلحة الوطنية )
( القائد والرمز الحقيقي والصادق والمخلص ، هو الذي لا يقدم نفسه ، وإنما يقدم مشروعه ، لأن خدمة الناس الحقيقية ، والعلاقة الإنسانية بهم ، تتطلب تقديم المشروع ، لا تقديم النفس ، فإذا وجدنا قائدا يقدم نفسه أمام المشروع ، فهذا لا يدل على الصدق والإخلاص ، وهو لا يقوم في هذه الحالة بعمل إنساني )
( المطلوب من المعارضة أن تخلق التوازن مع الحكومة في الساحة السياسية ، وبدون هذا التوازن لن تكون هناك حركة إصلاحية جادة . خلق التوازن يتطلب التحالف الوطني ، والعمل الوطني المشترك ، بحيث تكون الحكومة طرفا ، والقوى الشعبية طرفا آخر ، فإذا كانت كل قوة سياسية أو تيار سياسي يعمل بصورة منفردة ، وكانت القوى المعارضة متفرقة ، لن يكون في وسعها خلق التوازن مع الحكومة ، وقد اتخذت المعارضة خطوات في هذا الطريق ، وعليها أن تستمر في ذلك ، وأن لا تفرط فيه بأي حال من الأحوال ، ويجب أن يكون هذا التحالف الوطني منظما وجادا وواقعيا في عمله ، فلا يعمل بالأماني ، ولا يعيش على المجاملات في عمله ، كما يتطلب التوازن أيضا تضييق الحالة الشعبية لصالح العمل المؤسساتي ، أي توسيع وترسيخ العمل المؤسساتي ، وبدون العمل المؤسساتي الجاد لن يكون هناك توازن )

أعوذ بالله السميع العليم من شر نفسي و من سوء عملي و من شر الشيطان الغوي الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، اللهم صل على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين ومن اتبعه بإحسان إلى قيام يوم الدين ، السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أمير المؤمنين ، السلام على فاطمة الزهراء سيدتي وسيدة نساء العالمين ، السلام على خديجة الكبرى ، السلام على الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة ، السلام على جميع الأوصياء ، مصابيح الدجى ، وأعلام الهدى ، ومنار التقى ، والعروة الوثقى ، والحبل المتين والصراط المستقيم ، السلام على الخلف الصالح الحجة بن الحسن العسكري روحي وأرواح المؤمنين لتراب مقدمه الفداء ، السلام على العلماء والشهداء ، السلام على شهداء الانتفاضة ، السلام عليكم أيها الأحبة ، أيها الأخوة والأخوات في الله ورحمة الله وبركاته .

قال تعالى : ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي ، أنما إلهكم إله واحد ، فمن كان يرجو لقاء ربه ، فليعمل عملا صالحا ، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) صدق الله العلي العظيم .

عند النوم

ذكر فقهاء الإسلام على اختلاف مذاهبهم ، استحباب قراءة هذه الآية عند النوم ، ورغم قصر هذه الآية ، فقد اشتملت على أصول الدين الثلاثة ، وهي : التوحيد ، قوله تعالى : ( إنما إلهكم إله واحد ) ، والنبوة ، قوله تعالى : ( إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي ) والمعاد ، قوله تعالى : ( فمن كان يرجو لقاء ربه ) وبالتالي ، فإنه بالإضافة إلى ما ذكره الفقهاء من فوائد عظيمة لقراءة هذه الآية عند النوم ، مثل الاستيقاظ في الوقت المعين ، والثواب العظيم ، والألطاف النورانية التي يفيضها الله على عبده المؤمن ، إذا قرأ هذه الآية عند النوم ، بالإضافة إلى كل هذا ، فإن الإنسان المؤمن إذا قرأ هذه الآية عند النوم ، فإنه يتذكر أصول دينه ، التي تقوم على أساسها حياته وموته ، ومثل هذه القراءة ؛ ترسخ هذه الأصول وتركزها في وعي الإنسان المؤمن ، لتتركز بعد ذلك في حياته .

أنا بشر

قوله تعالى : ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي ) الله العلي الأعلى جل جلاله ، يخاطب عبده ورسوله ، خاتم الأنبياء ، وسيد المرسلين ، ( قل .. ) يا محمد ، ( إنما أنا بشر مثلكم ) أي أنني لست إلها ولا ملكا ، ولا أمتلك أي امتيازات أو سمات تخرجني عن بشريتي ، فأنا بشر مثلكم ، أحيا وأموت ، أجوع وأعطش ، أنكح وأنام ، أفرح وأحزن ، أمرض وأتألم ، وبالتالي فإن هذه الآية الشريفة المباركة ، قد نسفت جميع الامتيازات التي يتصورها المشركون للأنبياء ، وترد على جميع المقترحات التعجيزية ، التي يقدمها المشركون للأنبياء ، ولا يعلمها ولا يقدر عليها إلا الله.

الوحي .. وحي الله

قوله تعالى : ( يوحى إلي ) هنا الوحي ، يدل على عدة نقاط :

النقطة الأولى : أن ما جاء به النبي (ص) ، ليس اجتهادا من عند نفسه ، وليس تلقيا من عند أحد من المعلمين ، ولم يقرأه في كتاب ، وإنما هو وحي من عند الله .

النقطة الثانية : بأن النبي (ص) لا يتجاوز الهدى الذي يتلقاه ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل ، لأخذنا منه باليمين ) .

هل من المعقول ؟!!

النقطة الثالثة : وهي نقطة في غاية الأهمية ، بأن الله – جل جلاله – لم يترك الإنسان سدى ، فالإنسان في حياته يحتاج إلى التشريع ، وهو أكرم مخلوق ، وحكمة الله التي اقتضت أن ترعى البذرة حتى تصبح شجرة مثمرة ، وترعى النطفة حتى تصبح كائنا حيا ، والحكمة التي وضعت كل شيء في نصابه ، الشمس والقمر وغيرهما ، هل من المعقول أن تتخلى هذه الحكمة عن الإنسان ، في مسألة في غاية الأهمية كالتشريع ؟!! ، وهي التي يحتاجها في سبيل تحقيق غاية وجوده ، فالآية تؤكد إذن .. أن الله لم يترك الإنسان ، ولم يتخل عنه ، في مسألة جوهرية كالتشريع ، فأوحى للأنبياء بأن يأتوه بالمنهج الشامل في حياته ، المنهج الذي تتوقف عليه سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة .

أما عن تكليف النبي مع الوحي ، فيتمثل في عدة نقاط :

النقطة الأولى : التلقي الواعي للوحي ، قوله تعالى : ( فاستمع لما يوحى ) .

النقطة الثانية : العمل بما يوحى إليه ، قوله تعالى : ( فاستقم كما أمرت ) .

النقطة الثالثة : التبليغ ، قوله تعالى : ( بلغ ما أنزل إليك من ربك ) .

النقطة الرابعة : السعي لتطبيق الدين على أرض الواقع ، قوله تعالى : (ليقوم الناس بالقسط).

في هذه الفقرة من الآية نستفيدة عدة دروس :

لا امتيازات .. لا غموض

الدرس الأول : أن الوحي لا يعطي للأنبياء امتيازات أو سمات تخرجهم من نطاق بشريتهم ، ولا يعطيهم أي سمة من سمات الألوهية ، كما يدعيه النصارى للمسيح عيسى بن مريم (ع) .

الدرس الثاني : رغم أننا لا نستطيع أن نفهم حقيقة الوحي ، وكيف يكون تلقيه ، لأنه من الغيب ، إلا أن الوحي لا يجعل من الأنبياء شخصيات غامضة ، وغير مفهومة ، فالأنبياء أشخاص أسوياء ، يمكن فهم شخصياتهم ، بل هم القدوة الحسنة ، والأنموذج الأكمل للإنسان ، وهم حجة لله على الخلق

علاقة رسالية

الدرس الثالث : أن العلاقة بين الناس وبين الأنبياء ، هي علاقة رسالية ، أي علاقة بين الناس والرسالة ، وليست علاقة شخصية بين الناس وذات النبي ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ؟!!!) فهذه الآية المباركة ، تنتقد هؤلاء الناس الذين يصورون أن العلاقة بين الناس وبين الرسول علاقة شخصية ، وتؤكد على أن العلاقة هي مع الرسالة .

علمه التواضع

الدرس الرابع : أن الآية تبرز لنا حجم التواضع الذي يتصف به النبي محمد (ص) ، وكما يقول عبدالله بن عباس : أن الله علم نبيه التواضع في هذه الآية ، فالنبي محمد (ص) الذي هو أعظم إنسان ، والذي بلغ درجة عالية من الكمال ، أهلته لتلقي الوحي ، بل ( دنا فتدلى ، فكان قاب قوسين أو أدنى ) .. هذا النبي العظيم ، يؤكد على بشريته ، وأنه لا يمتاز عن الناس إلا بالوحي ، وهنا نجد مسألتين في غاية الأهمية ، ونحن نقف عند تواضع النبي (ص) :

قدم مشروعه

المسألة الأولى : أن الرسول (ص) كنبي وقائد ، لم يقدِّم نفسه للناس ، وإنما قدَّم مشروعه ، فالنبي يحمل مشروع ( بشر يوحى إلي ) فقدم المشروع للناس ، وهكذا يجب أن يكون القائد والرمز ، فالقائد والرمز الحقيقي والصادق والمخلص ، هو الذي لا يقدم نفسه ، وإنما يقدم مشروعه ، لأن خدمة الناس الحقيقية ، والعلاقة الإنسانية بهم ، تتطلب تقديم المشروع ، لا تقديم النفس ، فإذا وجدنا قائدا يقدم نفسه أمام المشروع ، فهذا لا يدل على الصدق والإخلاص ، وهو لا يقوم في هذه الحالة بعمل إنساني .

حالة اندكاك

المسألة الثانية : أن النبي محمد (ص) في حالة اندكاك وذوبان في هذا المشروع ، وأنه على أتم الاستعداد ، لأن يقدم أعز ما يملك في سبيل هذا المشروع ، فهو لم يكتف بتقديم المشروع على نفسه ، وإنما هو في غاية الاستعداد لتقديم كل يملك في سبيل نجاح هذا المشروع الذي آمن به .

بشر لكن عظيم

الدرس الخامس : يكشف لنا عن عظمة الإنسان ، أي أن الإنسان عظيم .. هذا الإنسان الذي خلقه الله من نطفة ، يمتلك الاستعداد للتكامل والارتقاء إلى درجة تؤهله لتلقي الوحي ( أنا بشر … يوحى إلي ) فهذا الإنسان الذي خلقه الله من التراب ، يتكامل ، ويرقى في إنسانيته ، إلى درجة يكون فيها مؤهل لتلقي الوحي من الله ، بل أكثر من ذلك ، يبلغ مستوى يقول عنه الله تعالى : ( فدنا فتدلى ، فكان قاب قوسين أو أدنى ) ، فهو إنسان ، ويؤكد على إنسانيته ، ولكنه بهذه الإنسانية والبشرية ، بلغ هذه المرتبة العالية ، فلنقتدي برسول الله (ص) ، ولنرتقي بإنسانيتنا ونسعى لتكاملها ، كي نقترب من الله – جل جلاله – ونسعد بلقائه سبحانه وتعالى .

ليست نسج خيال

الدرس السادس والأخير : أن هذه الآية تقول لنا : بأن العقائد الإسلامية هي عقائد موضوعية ، وأن الحصول عليها يكون من خلال منهج علمي صحيح ، فهي ليست نسج خيال ، فالمفكر .. ليس هو الذي يجلس في بيته أو على مكتبه ، وينسج خيال العظمة لله أو الأنبياء ، أو للمشروع الإسلامي ، وإنما الذي يفكر تفكيرا موضوعيا ، فيكشف عن الحقيقة الموضوعية ، سواء كان لله في توحيده ، أو للأنبياء في عبوديتهم لله ، أو للمشروع الإسلامي ، فالعقائد الإسلامية هي عقائد موضوعية ، والكشف عنها لا يكون إلا من خلال منهج علمي صائب ومحكم .

قوله تعالى : ( أنما إلهكم إله واحد ) الإله هو المعبود ، وللعبودية معنيين :

المعنى الأول : وهو أداء الطقوس الدينية ، كالدعاء والصلاة والصيام والحج والزكاة .

المعنى الثاني : وهو الطاعة .

هذه الآية تؤكد على مبدأ التوحيد ، وهو الأصل الأول من أصول الدين ، والترتيب في التسلسل بين هذه الفقرة ، والفقرة السابقة من الآية ، يفيدنا في أمرين أساسيين ، هما :

لا يصح

الأمر الأول : أن النبوة كأصل من أصول الدين ، تنبع من التوحيد ، فالله بكماله ، كونه – جلاله جلاله – يتصف بصفات الكمال ، لا يصح أن يخذل الناس ، ويتركهم هملا ، ومقتضى الحكمة الإلهية ، والرحمة ، واللطف الإلهي ، أن يرسل لهم الأنبياء ليقدموا لهم المنهج الذي يضمن لهم السعادة في الدنيا والآخرة ، كما بيناه سابقا .

نور من شعاع التوحيد

الأمر الثاني : أن الوحي منهج شامل في الحياة ، وكل جزئية من جزئياته باعتباره برنامجا إلهيا ، تخضع لمبدأ التوحيد ، وفيها نور من شعاع التوحيد ، قوله تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) فالغاية إذن من خلق الإنسان هي العبادة ، وبالتالي فجميع برامج الإنسان الفردية والجماعية ، يجب أن تخضع لهذا الهدف وهو العبادة ، ومنه تكتسب شرعيتها ، وقيمتها في خدمة الإنسان ، وتحقيق سعادته .

قوله تعالى : ( فمن كان يرجو ربه ) الرجاء هو : توقع حصول الخير في المستقبل ولقاء الله له معنيين :

كلما ..

المعنى الأول : الدنو والقرب من الله عز وجل ، وهنا يمكن القول : أن العبادة لها وظيفة ، وهذه الوظيفة تتمثل في تطهير النفس وتزكيتها ، وإثرائها وإغنائها ، بحيث تتكامل هذه النفس ، ومن خلال هذا التكامل تقترب من الله ، وكلما كان الإنسان أكثر كمالا ، كلما كان أكثر قربا من الله ( ثم دنا فتدلى ، فكان قاب قوسين أو أدنى ) .

المعنى الثاني : وهو لقاء القيامة (يا أيها الإنسان : إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه) والإنسان يلاقي الله يوم القيامة فيحاسبه .

لكانت عبثا

ونجد في هذه الفقرة من الآية نفس النكتة أو الملاحظة الدقيقة الموجودة في الآية الأولى ، فمثل دلالة التسلسل في الترتيب في الفقرة الأولى والثانية ، على أن النبوة تنبع من التوحيد ، نجد الآية أيضا فرعت لقاء الله على التوحيد ، فلقاء الله والميعاد يوم القيامة ، متفرع عن التوحيد ، فالله بحكمته وعدله ، ثبَّت يوم القيامة والميعاد في مسيرة الإنسان ووجوده ، لأنه لولا القيامة ، لكانت حياة الإنسان عبثا ، أي يأتي هذا الإنسان لهذه الحياة ، وتكون حياته على أي طريق وأي شاكلة ، ولا فرق في ذلك ، وبعد ذلك يموت الإنسان وتنتهي حياته ، وينتهي وجوده ، وكأنما هذا الإنسان الذي له الكرامة العظمى بصفته أعظم مخلوق ، إذا لم تكن هناك القيامة أو المعاد ، تصبح حياته ووجوده عبثا ، وهو خلاف الحكمة ، وخلاف العدل أيضا ، فالناس لديهم علاقات اجتماعية ، وقد يجور بعضهم على البعض الآخر ، ويختلفون في أعمالهم ، فهناك من يعمل عملا صالحا حسنا ، وآخر يعمل عملا سيئا ، وفي النهاية يتساوى الجميع !! هذا خلاف للعدل ، لأن الإنسان يملك الوعي والإرادة والاختيار ، والناس يتفاوتون في أعمالهم ، فهل يصح أن يكون هذا التفاوت لا قيمة ولا أثر له في حياة الناس ومعادهم ؟!! .

العمل المناسب

قوله تعالى : ( فليعمل عملا صالحا ) كل إنسان لديه رجاء ، لابد أن يعمل العمل الذي يتناسب مع هذا الرجاء ، ويتحرك ويسعى نحو تحقيق هذا الرجاء ، بحيث يكون هذا العمل ، وهذا التحرك يتناسب مع نوعية الرجاء ، لهذا جاء قوله تعالى : ( فمن كان يرجو لقاء ربه ، فليعمل عملا صالحا ) أي أن الذي يرجو لقاء الله ، فليعمل لهذا اللقاء العمل المناسب ، والآية بلاغيا تدلنا على أن الإنسان يجب أن يكون في حالة استمرار في هذا الرجاء في جميع الأوقات ، وفي كل الحالات ، وأن يكون عمله عملا صالحا مفيدا ، ولائقا لرجاء اللقاء بالله ، بحيث يقربه إلى الله وينفعه يوم القيامة .

جواز مرور

قوله تعالى : ( ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) الآية تقول لنا : أن الذي يرجو لقاء الله ، فهناك جواز مرور لهذا اللقاء ، ويتمثل في شيئين : أولا – العمل الصالح ، وثانيا -أن يكون العمل خالصا لوجه الله ، بأن يخلص في هذا العمل ، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ، والشرك قد يكون ظاهرا ، كما نجده عند الكافرين بآيات الله ، وقد يكون خفيا ، كما يقول الرسول الأعظم (ص) : ( اتقوا الشرك الأصغر ، قيل : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ، قال : الرياء ) وفي حديث آخر ( من صلى رياء فقد أشرك ، ومن صام رياء فقد أشرك ) والآية بمجملها ، تربط بدايتها بنهاياتها ، لتقول أن المشروع الإلهي من الأساس ينبع من التوحيد ، والشرك يتناقض مع هذا التوحيد ، والذي ينسجم مع التوحيد هو الإخلاص في العمل .

رزمة واحدة

والخلاصة : بأن هذه الآية الشريفة تقدم لنا أصول الدين كرزمة واحدة ، يتصل بعضها بالبعض الآخر ، وتبين لنا بأن المشروع الإلهي ، وكل ما فيه من برامج فردية وجماعية ، وكل جزئية من جزئيات هذه البرامج فيها نور من شعاع التوحيد ، وأن الإنسان يجب أن تكون حياته محكومة بالتوحيد .

بعد هذه الوقفة القصيرة مع الآية المباركة ، آتي إلى الحديث عن الشأن الوطني ، وسوف أتكلم في ثلاث نقاط ، والكلام في هذا اليوم كلام مجمل ، لأني سوف أفصل بعض ما يرد من نقاط ، فسوف أتكلم اليوم عن المؤسسات ، وسوف يكون هناك حديثا تفصيليا عن المؤسسات ، وسوف أذكر دور الجماهير ، وسوف أتكلم تفصيلا عن دور الجماهير في حديث لاحق ، وسوف أذكر برنامج العمل الوطني ، وأتحدث بالتفصيل عن هذا البرنامج أيضا في حديث لاحق .

منطق قوي

النقطة الأولى : أضواء على قرار المقاطعة .

قرار المقاطعة قرار واقعي وعقلائي ، ويصب في المصلحة الوطنية ، والحركة الإصلاحية في البلد ، وهو قرار يمتاز بميزتين :

الميزة الأولى : أنه يستند إلى منطق حقوقي وسياسي قوي جدا ، وقوة منطق قرار المقاطعة فرض على الجميع احترامه ، وأنه حتى الآن لم يستطع أحد أن يرد على هذا المنطق ، سواءا في بعده الحقوقي أو السياسي ، إلى درجة أن البعض ممن أراد المشاركة ، حاول أن يلتف على هذا المنطق ، لأنه ضعيف وعاجز عن مواجهته ، فأكد شرعية وصحة هذا القرار ، وأنه قرار وطني يخدم مصلحة الوطنية ، ولكنه يطرح بأن هذا القرار يحتاج إلى المساندة من الداخل ، وأن ترشيحه هو دعم لقرار المقاطعة . ومن أجل الموضوعية ، ومن أجل التاريخ ، أقول : بأن الذين يدعون إلى المشاركة ، والذين رشحوا أنفسهم ينقسمون إلى قسمين :

أسس ليدين نفسه

القسم الأول : هو الذي يرى صحة الوضع الدستوري والسياسي في هذا البلد ، وهذا القسم ، ينسجم موقفه مع رأيه .

القسم الثاني : يرى بأن الوضع الدستوري والسياسي في البلد خاطئ ، ويرى في نفس الوقت بأن إمكانية التصحيح من الداخل غير ممكنة ، ومع ذلك يشارك ، وهذا القسم موقفه متناقض مع رأيه ، وأقول : بأن وضع القسم الأول أفضل بكثير من وضع القسم الثاني ، فالقسم الثاني – وهذا الكلام أقوله كحكم موضوعي ، ومن أجل التاريخ ، ومن أجل المصلحة الوطنية ، وليس سبة لأحد – هذا القسم أسس هو بنفسه لكي يدين نفسه تاريخيا ووطنيا ، لأنه في الوقت الذي يعترف بخطأ الوضع الدستوري والسياسي في البلد ، وعدم إمكانية التغيير من الداخل ، يقول بالمشاركة ويدعو إليها ، فهو يقوم بهذه المشاركة بترسيخ هذا الوضع الخاطئ ، وإعطاء الشرعية له ، ويضعف الحركة التصحيحية ، وباختصار شديد : أن المنطق القوي للمقاطعة يتطلب عدم المشاركة لا ترشيحا ولا انتخابا لأي كان ، ولأي سبب ، وهو الذي – حسب تقديري – يخدم المصلحة الوطنية .

القرار الشجاع

الميزة الثانية : أن هذا القرار قرار شعبي وجماهيري ، وهو قرار نخبوي ، وقرار وطني ، غير محسوب على تيار بعينه ، وذلك لأن أكثر من قوة سياسية ، وتيار سياسي تبنوا واتخذوا هذا القرار ، وهو قرار يمثل الغالبية العظمى لأهل الاختصاص ورجال القانون ، وقد نتج عن هاتين الميزتين لقرار المقاطعة ، قلة عدد المرشحين ، وغياب الرموز الوطنية البارزة في البلد ، وغياب الشخصيات المرموقة بوجه عام ، سواء أكاديميا ، أو مهنيا ، أو سياسيا ، أو اجتماعيا ، فمعظم الوجوه التي تقدمت لترشيح نفسها ، هي شخصيات مجهولة ، ولا يمكن الاطمئنان لكفاءتها في العمل ، وهذا يلقي بظلاله على مستقبل الحياة البرلمانية في البلد ، فهي دون مستوى الطموح ، سواء كان الطموح الشعبي أو الرسمي ، ولهذا توجهت إلى عظمة الملك في ندوة نادي العروبة ، وأتوجه في هذا اليوم ، ومن هذا المنبر ، لعظمة الملك ، وبرغبة صادقة ، بأن يتخذ القرار الشجاع بتأجيل الانتخابات ، والدخول في حوار وطني مع القوى السياسية ، على أساس دستور 73 ، وميثاق العمل الوطني ، هذا ما تتطلبه المصلحة الوطنية ، وإنقاذ مشروع الإصلاح لعظمة الملك ، وأقدر بأن عظمة الملك يمتلك من الشجاعة والمرونة والأفق الواسع ، ما يشجعه ويحمله على الخروج على المألوف في السياسة التقليدية .. أنا واثق من ذلك.

بداية الطريق

النقطة الثانية : أن الجمعيات السياسية الأربع اتخذت قرار المقاطعة ، وهو في تقديري قرار واقعي وصائب وعقلائي ، وقد ذكرت ميزات هذا القرار قبل قليل ، إلا أن اتخاذ هذا القرار ليس هو كل شيء ، وإنما هو بداية الطريق ، ويبقى بعد ذلك الأداء الحسن والمتطور ، فالمطلوب من المعارضة تحسين أدائها وتطويره ، وتحسين الأداء يتطلب عدة أمور :

مشروع وطني

الأمر الأول : أن يكون هناك برنامج عمل للمعارضة ، بل أكثر من ذلك .. يجب أن يكون لها مشروع عمل وطني متكامل ، حيث أن من شأن مشروع العمل أن يعطي المعارضة زمام المبادرة ، مما يجعل من موقفها قويا أمام الحكومة ، كما يعطيها الرؤية الواضحة ، مما يجعلها تتخذ الموقف القوي والصائب ، ويكسبها ثقة الجماهير ، ومن جهة أخرى يحمي المعارضة من المزايدات ، حيث توجد في الصحافة الكثير من المزايدات على المعارضة ، فإذا كان هناك مشروع عمل ، والرؤية فيه واضحة ، والبرنامج فيه واضح ، فذلك يحميها من المزايدات ، وأنا أعتقد أن المعارضة تأخرت في طرح برنامج العمل ، وفي إمكانها أن تكون أسرع في إنجاز هذا البرنامج ، وهو ليس بالأمر الصعب ، فينبغي عليها الإسراع في إنجاز هذا المشروع .

التوازن المطلوب

الأمر الثاني : وهو في غاية الأهمية ، أن المعارضة مطالبة بخلق التوازن مع الحكومة ، وأرجو الالتفات لهذه النقطة ، واستيعابها جيدا ، فوجود الحكومة كطرف وحيد ، والطرف الأقوى في الساحة السياسية ، ينتج الفساد ، وهي سنة تاريخية وليست سبة ، فالله يقول : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) فالمطلوب من المعارضة أن تخلق التوازن مع الحكومة في الساحة السياسية ، وبدون هذا التوازن لن تكون هناك حركة إصلاحية جادة . خلق التوازن يتطلب التحالف الوطني ، والعمل الوطني المشترك ، بحيث تكون الحكومة طرفا ، والقوى الشعبية طرفا آخر ، فإذا كانت كل قوة سياسية أو تيار سياسي يعمل بصورة منفردة ، وكانت القوى المعارضة متفرقة ، لن يكون في وسعها خلق التوازن مع الحكومة ، وقد اتخذت المعارضة خطوات في هذا الطريق ، وعليها أن تستمر في ذلك ، وأن لا تفرط فيه بأي حال من الأحوال ، ويجب أن يكون هذا التحالف الوطني منظما وجادا وواقعيا في عمله ، فلا يعمل بالأماني ، ولا يعيش على المجاملات في عمله ، كما يتطلب التوازن أيضا تضييق الحالة الشعبية لصالح العمل المؤسساتي ، أي توسيع وترسيخ العمل المؤسساتي ، وبدون العمل المؤسساتي الجاد لن يكون هناك توازن .

دور الجماهير

النقطة الثالثة : وتتعلق بدور الجماهير . ذكرت قبل قليل أهمية وضرورة ترسيخ العمل المؤسساتي ، ولكن ليس معنى ذلك تعطيل دور الجماهير ، بل يجب تفعيل دور الجماهير ، وهذا ما نستفيده من سيرة الأنبياء والأئمة (ع) ، وسيرة كل المصلحين ، فبدون تفعيل دور الجماهير لن تستطيع المعارضة أن تحقق شيئا ، لأن الكتلة الحرجة ، والرقم الأصعب في العمل السياسي هي الجماهير ، والذي في وسعه أن يقلب كل المعادلات السياسية ، ويحقق التوازن بين المعارضة والحكومة هو العمل الجماهيري ، فأي طرح للعمل المؤسساتي يهمش دور الجماهير ، أو يعطل دور الجماهير فهو طرح خاطئ ، ويؤدي إلى كارثة ، وفشل في العمل السياسي ، فالمؤسسات يقع دورها في تنظيم العمل الجماهيري وليس تعطيله ، والجماهير يجب أن تكون متواجدة وفاعلة في الساحة ، وهي بحاجة إلى من يقودها وينظم عملها ويوجهه ، وهذه المسئولية تقع على المؤسسات والرموز .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

بتاريخ 20 رجب 1423 هـ الموافق 27 / 9 / 2002 م
في مسجد الشيخ خلف في قرية النويدرات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.