شكوى الوطن

في الغربة، حيث الشوق والبعاد، والسعي الحثيث للبحث عن الذات وبروز الأنا، وتداعي موجات الصراع والتنافر، ودعوات الوفاق والتعاون، احتشد الأشقاء والغرباء، وغدوا يتبارون ويتنازلون كما الفرقاء، وهم لبعضهم منكرون! كان الأفق معتكرا، ودموع الشمس تنهمر قطرات سوداء لتكالب خطوط الظلمة التي توافدت لتخفي الشعاع من أجواء الفضاء البهيج.

بالروض الأخضر الممتد مد البصر، عندما أقبل ماجد عليهم وهم في لغطهم منهمكون، يتناوشون بعضهم بعضا، وتعلو أصواتهم فوق بعضها، وتلوك ألسنتهم الكلمات الجارحة، وفي وسط هذا الزحام المحموم، لمح ماجد رجلا يجلس جلسة الحزين، أمعن النظر فيه، فوجده يغالب حيرته، وتردده، خطى خطوات مسرعة نحوه، وهو يراهم يتجاذبون أطرافه عنوة، كلما اشتدا فيما بينهم، وهو يلويها عنهم في رأفة ورفق ولين.
كانت ملامح الفتوة واضحة بين ذراعيه المفتولين، وصدره الرحب العريض أمارة من أمارات الصبر والتحمل.. ومع هذا فقد سبغت الكآبة محياه، وبدت عيناه دامعتين، وغدا قلبه يعتصر ألما برغم نبرة الحنو وكلمات الحنان التي يطلقها ليخفف من وطأة الخلاف والصخب، وقد بدا منكفئا، لكنه لا يفتأ يومئ بالهدوء، ويدعو لضبط النفس.
شق ماجد صفوف الحشد، واقترب منه، وما أن أحس به خفف من وحدة الوجد ومسح دموعه بكفيه، وأخذ يغالب نفسه وآلامه ليرسم الابتسامة على وجهه المكلوم تحية وتقديرا، والجمع في دهشة وذهول، وقد دب الهمس المريب بينهم وهم يقولون:-
– من هذا؟ وما علاقته بماجد؟
اختل للدهشة جمعهم، وهدأت زوبعة الميدان، وانكشفت الزاوية التي حشر بها، فبعضهم آثر البقاء عن بعد استكشافا، والبعض الآخر غادر مشدوها وتوارى في الزحام، ونزر اقترب بحذر، وفي نفسه هيبة الموقف وغرابته.
بادره ماجد بالحديث، بعد أن افترس الأرض بجانبه، وشرع ينفض عنه ركام الإعياء، وعيونهم لاتزال سهاما مشرعة نحوهما وهو يقول:-
– ما بك؟ ما الذي أصابك لتذرف الدموع وكأنك نبع أحزان أيها الحبيب؟
– عاجله باسل قائلا: كان يبننا عندما بدأ الحديث، ولكنه سرعان ما اتجه نحو الزاوية فأخذ يشير بيديه، ويتلفظ بكلمات لا تكاد تتضح وتبين وسط ارتفاع الأصوات، وهو في بكاء لم ينقطع، ودموعه تنهمر كالسيل، وأظن أن الجدل أعياه، وعجز عن مجاراة الجمع فلم يعبأ به أحد.
توجه إليه ماجد عندما رأى الحزين تعاوده الدموع، ويزداد وجهه شحوبا في صمت وحزن قائلا:
– اعتذر أيها العزيز، لإساءتي، فاغفر لي خطأي فربما أكون قد أحجب لواعج أحزانك يا بلسم الوجود، فما أنت إلا…
– يقاطعه باسل: من هذا الذي تخضع له وتتعطف له؟ ولم تعرف بعد قصته!
– لم يرد ماجد جوابا على باسل، ولم يلتفت الحزين إلى استفساره، وفي تأوه وأنين بصوت متقطع قال: قدمت إليهم، وحاولت جاهدا إيقافهم، لكنهم جميعا استهجنوا رأيي ولم يسمعوا كلمتي، وهذا ما أحزنني وأبكاني، فأنا لا أستطيع أن أراهم في شقاق.
– ماجد: لا عليك فهم لم يعرفوك بعد.
– الحزين: حزني وبكائي عليهم، فحالهم كم هو أليم.
– باسل: ما بنا؟ وما الذي يحزنك منا؟
– الحزين: رأيتكم ضائعين في بيداء الحياة الشاسعة، وكأنكم لا تعون ما تفعلونه بأنفسكم.
– ماجد: ماذا تعني بقولك هذا؟
– الحزين: رأيتهم في مستنقع الخلافات تائهين، وقد استجابوا للوساوس بعدما تمكنت منهم الظنون، وأغرقتهم الأوهام والتخرصات.
– ماجد: ما هذا يا باسل؟ ما الذي حدث بينكم؟
– باسل: باغتنا ونحن في جدالنا منهمكين كل يدافع عن نفسه ورأيه.
– ماجد:.. فحاصرتموه عندما توسطكم، وصادرتم كلمته ورأيه.
– باسل: لقد كان الحديث متحتدما، والصراع في أوجه، عندما حاول التدخل، فلم يسمع له أحد، وأنت تعرف ميدان الجدل عندما يحتدم وطيسه يصبح أكثر ضراوة وشدة من معركة القتال. والآن…
– يقاطعه ماجد.. ولأنكم تجهلونه.
– باسل: من هذا الذي تدافع عنه؟! ما شأنه بنا؟! ولم هذا الفضول؟!
– ماجد: لم تقدروه حق قدره، وكان عليكم أن ترفعوه فوق رؤوسكم تاج عرفان وعطاء، وتوجه إليه بعدها ماجد إليه قائلا: عذرا أيها الغالي، فهم لم يعرفوك بعد، لذلك لم يسمعوا كلمتك ورأيك.
– باسل: الآراء متباينة، والنفوس مشدودة ولم نعره اهتماما كغيره، ولكن لم تقل من هذا؟!
– أعلم أنك ستغفر لهم هوفتهم بقلبك الكبير، وصدرك الواسع.
– الحزين: الذي يمض النفس ويؤلمها، خواطر السوء المتغلغلة فيكم، وغلبة الأنا في داخلكم، وعصبية الأهواء بينكم، تلك الآراء المعوجة التي تحيطكم، والتي حالت بينكم وبين نداء العقل والواجب، لتنشر الوهن أسرابا، وتدب الضعف ألوانا.
– ماجد: لقد زدت من فزعي بحدثك هذا، فهل نحن وصلنا إلى هذا الحد؟
– ابني العزيز: إن إخوانك تائهون في دوامة الخلافات، ومن ورائهم تلك الوساوس التي يبثها المتحذلقون، ودعاة المصالح فتوغر صدورهم، وتملأ نفوسهم بالظنون فتجعل الحياة فيما بينهم حمما متناثرة، ألا تراهم يقتربون من الأجنبي الدخيل، والطامع المرتزق الذي يعيش بينكم وكأنه الأخ الحميم، في حين تقتل نفوسهم الأوهام وتصرع عقولهم الوشايات عندما يتعلق الأمر بعلاقاتهم ووشائجهم، فتراهم يعاملون بعضهم على مضض وكأنهم خصماء الدهر، وأعداء الأبد.. ألا تشعر معي بالأسى، وتتجرع كؤوس العار لهذا التباين الذي يعيشونه؟ ولهذا التغيير الذي يجتاح نفوسكم؟
– ماجد: لسنا جميعا كما تظن أيها العزيز، فالكلمات غير اللائقة التي تسمعها هنا وهناك، والممارسات غير الصحيحة التي تراها، ما هي إلا تصرفات فردية ذات طابع شخصي يفرزها ويدعمها أحيانا ذلك الزخم العاطفي والوجداني غير المسؤول، والذي تبثه الجهات الفئوية دون مراعاة أو تقدير، ولا سبيل لنا عليه كما تعلم.
– باسل: لا عليك يا ماجد، فهذا الرجل قد حمل الأمور أكثر مما تحتمل، وأراه يبالغ في خلافاتنا، فنحن وإن اختلفنا لسنا متنافرين كما يدعي، ولا متصارعين كما يظن ويعتقد، والخلاف سنة الحياة، وهو ظاهرة صحية تعيشه كل المجتمعات، وتقره المجتمعات الواعية والناضجة، وخلافاتنا لم تصل إلى حد القطيعة كما يتوهم.
– الحزين: أبنائي، صراعكم عواصف في صدري تزعزعه، وتنافركم سهام نابتة في صدري تدميه، وقلبي جريح لا يبرحه الألم الذي يستحوذ كل كياني ليمزقه. وإن تراشقكم بكلمات السباب والشتائم بداية لما هو أخطر وأعظم، وقد يجركم إلى التشاكي إلى السلاح وآلات الدمار والخراب، التي تقطع الرحم، وتطرد الأمن والأمان ولكي تتأكدوا من كلامي تأملوا واقعكم، فأنتم تتعايشون مجاملة، وتتجمعون مجاملة، وتتحدثون في لقاءاتكم الرسمية مجاملة، وتخجلون من كشف الأعماق المضطربة، وفي داخلكم أتون ملتهب ينفث حمما وغضبا، يلتهم مشاعر الأخوة، ويقضي على أجواء الألفة والحياة الهادئة.
– أعتقد أنه من أولويات اعتباراتكم ألا تتناسوا صلة الرحم، وواجب القربى، وحقي عليكم أن تعيشوا على ترابي متراحمين، متعاونين، أقوياء.
– باسل.. لكن نفوسنا..
– يقاطعه الحزين. كفى، كفى تجاهلا وعنادا وغفلة، فالويل لنا جميعا من هذا الحبل الأسود الذي يفرق الأحبة ويمزقهم، إنه الجحيم اللاهب لطهارة النفس، إنه الداء المستشري في الجسد السليم، بل هو الآفة الملتهمة لمرابع الخير في كل كيان وطني، وهو دون شك الرذيلة التي تجتاح مسامات المبادئ فتفتها، وتخلق الصمت الغبي لأهل الموقف والرأي حينما يتولى هذا الحبل في حلبة الصراع، وحينما يتنامى شعور اللامبالاة المقيت المشين عند العامة، فمتى يستيقظ الضمير فيكم؟ متى يستيقظ الضمير فيكم؟
– باسل: لقد شط بك الظن، حينما صورتنا وحوشوا كواسر دفعتها المطامع واستولت عليها الأهواء، فمجتمعنا كبقية المجتمعات لكل فرد فيه طموحه وحريته الشخصية، وهفواته ومشاكله لا تتعداه، وما تتحدث عنه من مواقف وممارسات هي شخصية الطابع كما أسلف ماجد، يفرزها الواقع، وليست ظواهر اجتماعية يقرها المجتمع أو القانون، فكلنا يعتز بوطنه، ويخدم مواطينه حسب قدراته وموقعه.
– الحزين: إن واقعكم يشهد عليكم بالانحسار والتراجع في علاقتكم، وإنكم لا تزالون تعيشون التقوقع البغيض بانتمائكم في الكيانات المتعددة، وتصنعون السياجات المنيعة لتفرضوا الحصار الفئوي على تجمعاتكم…؟! وهذا المسار تحديدا هو الذي أبعدكم عن مواقع النشاطات والفعاليات العامة التي تحقق السمو والرفعة لأبناء مجتمعكم وعلى حد سواء، فوضعكم هذا غاية في التعقيد، وهو بمثابة الكارثة التي غذتها الأهواء ذات الحس الأناني البعيد عن وحدة الهدف والموقف، ورعتها التجاوزات اللامبالية، وصيحات التمذهب، ودعوات الطائفية الفئوية الغاوية، لتنخر في جسد الوطنية، وتزعزع مكتسباتها التي أرستها، ولتتيقنوا جميعا، أنكم لن تعيشوا سعداء مع راية التمذهب والطائفية والتي تكابرون أنفسكم من أجلها، وتعملون على ترسيخها كقناعات في عقول أجيالكم القادمة لينالوا بعض الفتات الذي تقتاتونه بين الفينة والأخرى، وإنما الحل يكون بتعزيز قناعة الوئام، وتأصيلها في ضمائر الأبناء، ليكون كياننا كما عهده السابقون وحدوي متين، يقوم على المشاركة العادلة، وفي إطار العمل الوطني الشريف.
– ماجد: ماذا تريدنا أن نفعل؟ هل تعتقد أن بمقدورنا تناسي أنفسنا؟، شعورنا؟، مبادئنا؟.
– بل تناسوا أهواء التبعية، وأجواء الفرقة، وأمزجة الاختلاف والشقاق.
– باسل: إننا منذ خلقنا، ونحن نعيش على هذه الأرض بهذه الكيفية، فما هذا النغم الجديد.
– الحزين: سل من هم قبل يعلموك، وثق أن المواطن الواعي يدرك بفطرته أن تعامله بتسامح وود في ساحة العمل من أجل بناء الوطن، مع البوذي، والمجوسي، والمسيحي، وغيرهم من ملل الدنيا وعقائد الكون أمر ضروري يقتضيه الذوق، ويتطلبه الخلق الرفيع، ورغم الاختلاف لن يكون تعامله مع أخيه أقل تسامحا ولطفا، بل الأولى أن تزداد نبرة التسامح، وتتضاعف لهجة الود، وإن اختلفت الطائفة، أو تغاير المذهب، فالقاسم المشترك بيننا هو التراب، وواجب الأخوة يحتم علينا أن نصبغ تعاملنا بالشوق والشغف، ونحليه بالإخلاص والإيثار والتفاني من أجل الخير العام والمصلحة الوطنية، وإلا فمجهودنا سيذهب سدى، فأي فائدة ترتجي من عمل يعمر جانبا ويهدم آخر أكثر خطورة وعمقا، فهل أنتم مدركون معي لواقع الحرج والغربة التي نعيشها كل بسبب هذه الحواجز.
– باسل: هذه هو واقعنا كسائر البشر.
– الحزين: إنه واقع صعب مرير، وإذا استمر هذا الواقع، فلن يفضي إلا إلى المزيد من التيه المهين يا باسل.
– ماجد: هون عليك أيها الوطن الحبيب، واخلع عنك ثياب أحزانك، وقر عينا، واطمئن، فكلنا من أجلك نضحي ونكدح مثابرين، وكلنا يسعى من غير توان، ولا جموح، وإن بوادر الأسى التي ارتسمت محياك، لن يكون لها مكان بعد اليوم، فالجهود ستتضافر، والأنباء ستجمعهم وحدة الكلمة كما جمعتهم كلمة التوحيد واللغة على ترابك الغالي، وما آلم نفسك اليوم من مشاهدات مواقف مزعجة ما هي إلا سحابة صيف عن قليل ستنقشع، وسترى يا من أرواحنا تفتدي لأجله، أيام مستقبلك مجدا زاخرا، وعطاء مبهرا، وإن جسدك معافى وقد توارت منه كدمات الخطوب، والتأمت جروحك، وعادت قواك أكثر صلابة وصمودا، ولن تخدشها فرديات الغفلة والأنا، ولن تفت عضدها صرخات المشبوهين، وتجاوزات المغررين، وطعنات الأعداء..
– انفتحت أسارير الوطن الحزين، وأضحى وجهه مشرقا، وأقبل على ماجد يقبله، ودموع الفرحة بالغد المشرق قد ملأت وجنتيه وهو يقول وقد مد ذراعيه لباسل: أنا محب لكم جميعا، فخور بطاقاتكم وقدراتكم وجهودكم الخيرة.
– ماجد: بل فخرنا بك لا يضاهى أيها الوطن المعطاء، فما أنا وباسل، وهذا الجمع المحتشد أمامكم سوى عينة من جسدك، وإن أبناءك البارين بك كثيرون، ولن يريحهم عيشك السقيم، وقلقك المستمر خوفا عليهم ورأفة بهم، بل أنهم سيستجيبون طواعية لداعي الوداد والتآلف بأخوة صادقة.
– باسل.. بعد أقترب من ذراعي الوطن المبسوطتين ترحيبا وهو في تأثر واضح وقد غدا وجهه محمرا وهو يقول: عذرا أيها الوطن العزيز الغالي، فقد جهلنا قدرك وما رعينا حرمتك، وإنني وإخواني جميعا نعاهدك على الإخلاص والوفاء، والعمل من أجل نمائك صفا رصينا، وهاأنا ذا أقبل ترابك الطاهر تكفيرا لخطيئتي، واعترافا بذنبي.
– الحزين: هذا ما أرجوه لكم، وإنه ليسعدني أن أرى أبنائي متكاتفين، متعاونين، يعيشون الوئام والانسجام على ترابي.
– نعم هذا ما سيكون بمشيئة الله وعونه وبمباركة الجهود المخلصة لأبنائك النجباء ورفقائك الأوفياء.
– المواطنون وقد أحاطوه فرحين سعداء وهم يرددون: إننا معك يا ملاذنا، وملجأنا، إننا معك بقلوبنا وأرواحنا، إننا معك يا حصنا المنيع، ومجدنا العتيد، كلنا نعاهدك ومن مواقعنا المختلفة على الوفاء والتضحية يا أغلى ما في الوجود.
عندها امتدت الأيدي مبرمة عهد الولاء، وتشابكت مع النداءات مؤكدة على مسيرة النماء والعطاء.

كتبت في : سبتمبر 95

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً

إغلاق