كتب

الدولة والحكومة

الدولة والحكومة

تأليف
عبد الوهاب حسين

كلمة شكر

يطيب لي أن أتقدم بالشكر الجزيل والعرفان لسماحة آية الله الشيخ محسن الأراكي والمحامي القدير الدكتور حسن رضي لقيامهما بمراجعة الكتاب وتسجيل ملاحظاتهما القيمة عليه قبل طباعته وقد استفدت منها فعلا وأخذت بأكثرها . وقد تفضل سماحة آية الشيخ محسن الأراكي بكتابة تصدير للكتاب وهذا مما أعتز به كثيرا وقد أثلج صدري فله الشكر مجددا .

عبد الوهاب حسين

تصدير سماحة الشيخ محسن الأراكي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد وآله الطاهرين .
إن نظام الحكم وشخصية الحاكم والمجموعة الحاكمة يحددان مصير الأمة وشقاءها أو سعادتها في الحياتين الدنيا والآخرة ، بل وأن شخصية المجتمع وهويته يتحددان ويتبلوران ضمن شخصية الحاكم ونظام الحكم الذي يتعين على أساسه الحاكم المتصدي لقيادة المجتمع والماسك بزمام الأمور بين الناس .
هذا ما تؤكده نصوص الشريعة الإسلامية ومصادرها فقد قال سبحانه وتعالى : { يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } وورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله قوله : ” كيف ما تكونون يولى عليكم ” واشتهر على الألسن أن الناس على دين حكامهم أو ملوكهم ، وليس ذلك كله إلا تعبيرا عن الحقيقة الآنفة التي تؤكد تبلور شخصية الأمة وهويتها من خلال شخصية الحاكم ونظام الحكم الذي جاء به إلى موقع السلطة والقيادة .
وانطلاقا من هذا الأساس فإن الناس المحكومون شركاء في المسؤولية مع الحاكم الماسك بزمام الأمور فإن أحسن الحاكم وقام بواجباته تجاه الناس وتجاه ربه سبحانه وتعالى شاركه الناس في الأجر ، وإن أساء واعتدى وظلم واستأثر وأقام الجور وعطل الحدود والأحكام فعلى الناس أن يغيروا عليه أو يغيروه ، ويصلحوه أو يستبدلوا عنه غيره الصالح المصلح فإن لم يفعلوا كانوا شركاء في ظلمه واعتداءه وما يقترفه من الإثم متحدين معه في المصير الذي ينتهي إليه سواء في الدنيا أم في الآخرة ، وهذا هو الذي صرحت به الرواية التي رواها الإمام الحسين السبط سيد الشهداء عن جده رسول الله صلى الله عليه وآله إذ قال : ” من رأى منكم سلطانا جائرا يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ثم لم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله أن يدخله مدخله ” .
ومن هنا كانت قضية الحكم ومسؤوليات المجتمع أمام الحاكم والدور الذي لابد أن يضطلع به في تحديد مصير السلطة التي يخضع لها ويحيا تحت ظلها من أهم ما يجب على المجتمع كله أفرادا وكيانات اجتماعية أن تتثقف به ، وتكون على معرفة شاملة ووعي كامل به ، ليتسنى للمجتمع بكل أجزائه ومكوناته أن يقوم بواجبه إزاء قيادته السياسية التي بها تتحدد هويته وبها يتعين مصيره في حياته الدنيا والعقبى .
ولقد قام الأستاذ المجاهد عبد الوهاب حسين في مشروعه القيم ” الدولة والحكومة ” بعرض قضايا الحكم والدولة وشؤون الحكم والسلطة عرضا واضحا مبسطا يوضح للقارئ مبادئ الحكم وأصوله ونظام الحكم وما يرتبط بالحاكم من حقوق متبادلة بينه وبين الشعب ، مما يحق اعتباره خطوة موفقة في سبيل نشر الوعي السياسي ، ورفع مستوى الثقافة العامة بشان أهم قضايا المجتمع وأشدها تأثيرا في تقرير مصيره وتحديد هويته وتعيين واقعه ومستقبله الشقي أو السعيد .
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يمن على أخينا الحبيب الأستاذ عبد الوهاب حسين بأجر جزيل على هذا الجهـد ، وأن ينفع به إخواننا المؤمنين والله سبحانه وتعالى هو الموفق والمعين .
محسن الأراكي
20 محرم الحرام 1428

الموضوع : بحث للأستاذ عبد الوهاب حسين .
العنوان : الدولة والحكومة .
التاريخ : 12 / ذو الحجة / 1426 هـ .
الموافق : 3 / يناير ـ كانون الثاني / 2007م .

أهداف البحث : يسعى هذا البحث لتحقيق الأهداف الرئيسية التالية ..

الهدف الأول : المساهمة في نشر الوعي بين الجماهير بمفهومي الدولة والحكومة ، مع ملاحظة أن نشر الوعي بين الجماهير يتطلب البعد عن التعقيد الأكاديمي وعن الدخول في التفاصيل النظرية المملة والتركيز على الجوانب ذات البعد العملي . وعلى هذا الأساس لم أدخل في أخذ ورد حول النظريات المختلفة ، وإنما اكتفيت بعرضها بصورة موضوعية تخدم تحقيق الهدف من البحث . أما وجهة نظري فهي موجودة ضمن الرؤية الإسلامية وفق مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) .

الهدف الثاني : المساهمة في التأسيس الفكري لممارسة جماهيرية سياسية ناضجة ولحركة جماهيرية مطلبية واعية تقوم على أساس المفاهيم الإسلامية والوضعية الحديثة . مع التنبيه إلى أن الممارسة الفعلية لحركة المعارضة الإسلامية وغيرها تقوم ـ غالبا ـ في الوقت الحاضر على أساس المنحى الديمقراطي في الحكم ، وقد أخذ ذلك بعين الاعتبار في البحث وأثر فيه كثيرا ، وهذا مما ينبغي ملاحظته من القارئ الكريم .

القسم الأول ـ الدولة
وفيه بحوث عديدة
البحث الأول ـ مفهوم الدولة

للدولة مفاهيم عديدة في الفكر السياسي الحديث ، وقد تطور مفهومها تاريخيا ، وسوف أشير هنا إلى بعض أهم مفاهيمها الحديثة ..

المفهوم الأول : الدولة هي الكيان السياسي والإطار التنظيمي الكلي والمرجع الأعلى المسلم له بالنفوذ ، الذي يشرف على كافة أمور المجتمع ، والناظم لحياته الجماعية ووحدته ، وموضع السيادة فيه ، من خلال نظام قانوني شمولي . ( موسوعة السياسة . ج2 . مادة : الدولة . ص 702 ) .

وبحسب هذا المفهوم : فإن الدولة تتمتع بالسيادة حيث تعلو إرادتها فوق جميع إرادات الأفراد والجماعات والهيئات الأخرى في المجتمع ، بحيث تعترف لها ( طوعا أو كرها ) بالقيادة والفصل وبحقها في المحاكمة وإنزال العقوبات وبكل ما يضفي عليها الشرعية ويوجب الالتزام بقراراتها .. وذلك من خلال الوسائل التالية :

أولا – السيادة القانونية : وتتمثل في امتلاكها الحق المطلق والمستقل في إصدار القوانين وتعديلها وتفسيرها وإنفاذها على الجميع ولو بالإكراه .

ثانيا – السيادة السياسية : وتنقسم إلى قسمين ..

القسم الأول – السيادة الداخلية : وتتمثل في احتكار الدولة لحيازة وسائل الإكراه ( قوة مسلحة قادرة على فرض الطاعة في حدود الإقليم ) وحق استخدامها لضمان طاعة كافة المواطنين ، وتطبيق كافة القوانين عليهم ، مما يدعم سيادة القانون ، ويؤدي إلى ضبط حركة المجتمع ، وتأمين السلم والأمن والنظام ، وتحقيق التقدم والرخاء في المجتمع .

القسم الثاني – السيادة الخارجية : وتتمثل في صيانة الاستقلال ورد العدوان الخارجي على الحدود ، ورفض التدخلات الأجنبية في الشؤون الداخلية ، وحصر الحق في إقامة العلاقات مع الدول الأخرى والهيئات الدولية .

وفي الحقيقة : تعتبر السيادة الصفة الأساسية المميزة لمفهوم الدولة أكثر من أية صفة أخرى .

المفهوم الثاني : وهو مفهوم أكثر تحديدا من المفهوم السابق ، ويقتصر فيه المعنى على مؤسسات الحكم المستقلة عن مؤسسات المجتمع المدني ، والتي من خلالها تحدد وتنفذ السياسة والقانون العامين في المجتمع . ( المعجم الحديث للتحليل السياسي . ترجمة : سمير عبد الرحيم الجلبي . ص 430 )

وعلى ضوء هذا المفهوم تنبغي الإشارة إلى بعض النقاط المهمة ..

النقطة الأولى ـ مهام الدولة ومؤسساتها : للدولة مهام رئيسية تقوم بها في المجتمع .. منها في المقام الأول : ضبط حركة المجتمع ، وحفظ الأمن الداخلي والنظام وتأمين السلم الاجتماعي ، وتحقيق العدالة والتقدم والرخاء ونشر الفضيلة بين المواطنين ، ومنع العدوان الخارجي التوسعي ورفض التدخلات الأجنبية في الشؤون الداخلية وصيانة الاستقلال ، وهذا يتطلب رسم سياسات عامة للدولة ، وإصدار القوانين ، وتنفيذها ، والفصل في الخصومات والمنازعات بين المواطنين والمقيمين على الإقليم ، مما يفرض على الدولة إنشاء مؤسسات رسمية دائمة تستعين بها للقيام بهذه المهام .. وتشمل الهيئات الرئيسية التالية :

الهيئة التشريعية : وهي في الأنظمة الديمقراطية : هيئة منتخبة من الشعب يطلق عليها اسم البرلمان أو المجلس الوطني أو مجلس الأمة ونحو ذلك ، وتقوم بمهمة وضع أو تعديل أحكام الدستور ( بالشروط التي نص عليها ) وإصدار القوانين وإقرار الميزانية والإشراف على فرض الضرائب والرقابة على السلطة التنفيذية ومنحها الثقة أو حجبها عنها ومنعها من الظلم والاستبداد ، وذلك باعتبار أن الهيئة التشريعية أعلى سلطة في البلاد ، ومصدر كل القوانين ، والممثل الأعلى للسيادة الشعبية ، ولهذا يشترط فيها أن تكون منتخبة من الشعب .

والسلطة التشريعية قد تقوم على نظام المجلس الواحد كما في لبنان أو نظام المجلسين كما في أمريكا وبريطانيا وفرنسا .

الهيئة التنفيذية : وتعرف بالحكومة ( بحسب بعض التعريفات ) وتشمل الإدارات المدنية ومهمتها تطبيق ما ترسمه السلطة التشريعية من سياسات عامة ، وتنفيذ ما يصدر عنها من قوانين ، وتنظيم مالية الدولة والقضاء وتنشيط الاقتصاد ، وتقديم الخدمات للمواطنين .. مثل التعليم والصحة والإسكان ، وحماية الاستقلال ، وتنظيم علاقات الدولة مع غيرها من الدول في العالم .. وتمثيلها في المؤسسات الدولية .

كما تشمل الهيئة التنفيذية القوات المسلحة بشقيها :
أ ـ الجيش : ومهمته صد أي عدوان خارجي على البلاد .
ب ـ الشرطة : ومهمتها وضع القوانين التي تسنها الهيئة التشريعية موضع التنفيذ في الداخل وتحقيق الأمن والاستقرار وتمنع أي إخلال بالأمن عن طريق القوة وتقمع أيـة ثورة أو تمرد داخلي عند الاقتضاء .

ويقع على رأس الهيئة التنفيذية رئـيس الدولـة ( الملك أو رئيس الجمهورية ) وفي النظام البرلماني رئيس الدولة لا يحكم وهو غير مسؤول سياسيا والذي يحكم هو مجلس الوزراء فله الصدارة في السلطة التنفيذية ويكون مسؤولا سياسيا أمام البرلمان . وتضم الهيئة التنفيذية جميع موظفي الدولة ما عدا القضاة .

الهيئة القضائية : ومهمتها تفسير القوانين والفصل في الخصومات ، وتضم القضاة وأعضاء النيابة العامة والمحامون ، ويشترط فيها استقلال أعضائها ونزاهتهم لضمان تحقيق العدالة بواسطتهم ، ولهذا ينبغي أن تتخذ عدة احتياطات في تعيين القضاة وتوفير بعض الامتيازات والحصانة لهم أثناء مزاولة مهامهم لكي لا يكونوا عرضة للاستغلال من أحد .. ويشترط للانضمام في الهيئة القضائية الإلمام بالقانون والخبرة العملية .

النقطة الثانية ـ الفصل بين السلطات : ويعني عدم تركيز وظائف الدولة : التشريع والتنفيذ والقضاء في يد واحدة وإنما توزيعها على سلطات متعددة مستقلة مع ضمان تعاونها مع بعضها والرقابة المتبادلة لتحقيق وظائف الدولة ، وهو مبدأ سياسي تعمل به مختلف الدول بغض النظر عن اختلاف الأنظمة فيها ، باعتباره دعامة أساسية في الدولة لمنع الاستبداد والطغيان والتعسف وإساءة استعمال السلطة ، وضمان التوازن بين السلطات الثلاث ، بحيث لا تطغى إحداها على السلطتين الأخريتين ، وأن تكون كل سلطة رقيبة على السلطتين الأخريتين وتمنعهما من الخروج على اختصاصاتهما ، وصون الحقوق والحريات الفردية والجماعية للمواطنين ، وتقسيم العمل في الدولة مما يساعد على تخفيف الأعباء وإتقان العمل ، وتأمين الوسائل المؤسسية لوقف استعمال أو لمنع إساءة استعمال القوة في تبادل السلطة أو إدارة شؤونها .. إلا أن الأنظمة تختلف في مدى الفصل بينها : فهي ليست على درجة واحدة في ذلك ، فالولايات المتحدة الأمريكية تمتلك درجة عالية من هذا الفصل المنتظم وهو مدون في دستورها ، بينما هـذا الفصل أقـل وضوحـا في المملكـة الـمتحدة ( بريطانيا ) وسوف نتعرف في القسم الثاني من البحث على اختلاف الأنظمة في تطبيق هذا المبدأ والعمل به .

المفهوم الثالث : وينظر إلى مكونات الدولة وأركانها الرئيسية : الشعب والإقليم والسلطة ، التي يعتبر وجودها من لوازم قيام الدولة من الناحية القانونية .. وعليه تعرف الدولة بأنها : كيان سياسي ينتظم فيه مجموعة من الأفراد يستقرون على إقليم مستقل ( أرض لها حدود جغرافية محددة ) وتجمعهم مصالح مشتركة ، ويخضعون في تنظيم شؤونهم إلى سلطة سياسية مركزية عليا تجب طاعتها .
( القانون الدستوري والنظم السياسية . المشهداني . ص 9 )

أركان الدولة : وبناء على المفهوم الثالث نقوم بتوضيح الأركان الثلاثة الرئيسية التي تتكون منها الدولة ..

الركن الأول ـ الشعب : ولا يشترط فيه عدد معين ولكن يغلب على الدول الحديثة كثرة العدد بالمقارنة مع الدول القديمة ، ويصل بعضها إلى مئات الملايين .. مثل : الصين والهند والولايات المتحدة ، ولا يبلغ بعضها المليون .. مثل : الفاتكان وقطر والبحرين . ولا يشترط في الدول الحديثة الأصل المشترك لأبناء الشعب أو اللغة أو الدين أو التقاليد ، وإنما يكفي أن تقوم بينهم الروابط المشتركة على أساس وحدة المصالح والأهداف والمصير ، مما يؤدي إلى تحقيق الانسجام والتضامن بينهم ، كما هو الحال في كثير من الدول الحديثة مثل الولايات المتحدة وكندا واستراليا وروسيا وسويسرا وإيران والعراق التي تنتمي شعوبها إلى قوميات واديان مختلفة .

وهنا تجدر الإشارة إلى بعض الملاحظات المهمة ..
الملاحظة الأولى ـ الفرق بين مفهومي الشعب والأمة : وعلى ضوء ما سبق ينبغي التمييز بين مفهومي الشعب والأمة ..

مفهوم الشعب : مجموعة من الناس يسكنون ضمن حدود جغرافية محددة ( أي : يجمعهم وطن واحد ) وتشملهم قوانين عامة ومؤسسات سياسية محددة ، ومصالح وأهداف مشتركة تتوصل إلى تحقيقها من خلال سلطة وقيادة موحدة .

مفهوم الأمة : مجموعة من الناس يجمعها الإيمان بقيم مشتركة متمثلة في قيادة موحدة ونظام خاص في الحياة ، وآمال وآلام وتراث ثقافي ومعنوي وتكوين نفسي ومصير مشترك ، ولا يشترط فيها الوحدة الزمانية والمكانية ولا أية وحدة مادية أخرى ، فهي ظاهر معنوية أكثر من كونها ظاهرة مادية ، مثل الأمة الإسلامية التي تتكون من المجموعات البشرية التي تؤمن بالإسلام كمنهج حياة على مر التاريخ وتؤمن بالقيادة الدينية الشرعية .

قال الله تبارك وتعالى : { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ( الجاثية : 28 ) .

وبناء على هذا التعريف : لا يمكن تصور الأمة الإسلامية بدون القيادة الموحدة لها ، سواء كان ذلك في عصر المعصوم أو الغيبة ، ويطلق عليه في الاصطلاح الإسلامي أسم ( الإمام ) ويشترط فيه أن يكون متبعا من أبناء الأمة باعتباره ممثلا للإسلام ، وقدوة حسنة لهم في أعماله وأقواله ، وأن تصبح واجبات الأمة هي واجباته بدون زيادة أو نقصان .

الملاحظة الثانية ـ تأثير الجنس البشري : على الرغم من اختلاف المجتمعات البشرية في درجة الحضارة والتمدن والرقي ، إلا أن الناس متشابهون ( قطعا ) في طبيعتهم البشرية ، وأن التطور والرقي في المجتمعات البشرية ، لا علاقة له باختلاف الأعراق ، وكانت حياتهم في البداية متماثلة ، ثم اختلفت تدريجيا حتى تباينت على مدى قرون تباينا كبيرا لعوامل كثيرة ليس منه اختلاف الأعراق ، على خلاف ما روج له فلاسفة الاستعمار الغربي لتبرير استعمارهم للدول الضعيفة والسيطرة على ثرواتها ومقدراتها ، على أساس تطور العرق الآري للأمم الغربية على العرق السامي للأمم الشرقية ، مما يمنح الأمم الغربية حق السيطرة على الأمم الشرقية واستعمال القوة والمجازر ضدها .

الملاحظة الثالثة ـ القيم الاجتماعية : لكل مجتمع أسلوب معين في الحياة يقوم على أساس مجموعة من المعتقدات والقيم التي تراكمت على مدى قرون من الزمن حتى أصبحت تراثا يبجله الجميع ، ويلتزمون به ، ويمنعون الإساءة إليه ، ويسعون للمحافظة عليه ، ونقله للأجيال المتعاقبة ، وهذه ميزة لكافة المجتمعات الإنسانية عن غيرها من جماعات الحيوانات التي عاشت جنبا إلى جنب مع الإنسان أو بعيدا عنه في الصحاري والغابات . فالإنسان يتميز عن الحيوان بإدراك القيم والخضوع إليها ، وتعتبر القيم المعيار الأساسي لقياس سلوك الإنسان والحكم عليه بالثواب أو العقاب ، وعلى الرغم من وجود قيم خاصة بكل مجتمع من المجتمعات البشرية ، إلا أنها تشترك من حيث المبدأ في قيم عامة .. مثل : الصدق والأمانة والوفاء والتسامح والشجاعة والكرم والعدالة والحرية ، وقد أثبت الاستقراء التاريخي للمجتمعات البشرية ، أن القيم الإنسانية العليا والجزئية النسبية ، تلعب دورا رئيسيا في توجيه حياة الإنسان وتطوير المجتمعات وتبايناتها والتحكم في مسيرة التاريخ ، وتعتبر القيم الإسلامية العظيمة أرقي القيم وأفضلها وأكثرها تأثيرا في حياة الإنسان .

الملاحظة الرابعة ـ القدرة على التغيير : ترتبط القيم بالمجتمع وتعبر عن آماله وطموحاته ، وتقدم له وقودا يغذي مسيرته التاريخية ويتغلب به على الصعوبات التي تقف في طريقه ، ويهيأ له الأرضية لظهور زعامات وقيادات تاريخية تقود مسيرته نحو الأفضل . وعندما تتهيأ الأرضية لاحتضان قيم معينة في المجتمع ، فإن أساليب الإرهاب والعنف التي تتبعها الحكومات المستبدة والجماعات المضادة للقضاء عليها تكون غير مجدية .

الركن الثاني ـ الإقليم : وهو شرط من شروط الدولة ، فلا يمكن اعتبار القبيلة دولة ، وذلك لعدم استقرارها في إقليم معين .. ويشمل الإقليم : سطح الأرض داخل حدودها وما عليها من جبال وهضاب وأنهار وبحيرات وما تحتها من طبقات الأرض ( الأعماق ) وجزءا من البحار العامة الملاصقة للإقليم ( ويسمى البحر الإقليمي أو المياه الإقليمية ) وما يعلو الأرض والبحر من الطبقات الجوية دون التقيد بارتفاع معين . ويعتبر إقليم الدولة المصدر الأساسي لثرواتها ، وفي حدوده تمارس جميع سلطاتها : التشريعية والتنفيذية والقضائية ، وبتعيين حدود الإقليم لكل دولة بشكل قانوني ، واعتراف سائر الدول ، يزول أحد الأسباب الرئيسية للنزاعات بينها .

ويلعب الإقليم دورا كبيرا في نشاطات المجتمع وحضارته ، فمصر هبة النيل ، وغالبية الحضارات نشأت على ضفاف الأنهار ، وهناك مناطق غير قابلة للتطوير إلا إذا استخدم فيها العلم الحديث والتكنولوجيا المتطورة لتغيير معالمها .. مثل : الصحاري والمناطق الجبلية الوعرة والثلجية ، فلم تطرأ على حياة البشر في القطبين الشمالي والجنوبي إلا تغييرات يسيرة منذ قرون . كما يلعب الإقليم دورا كبيرا في بعض التشريعات والنظم الإدارية ، فالمناطق الساحلية تساعد على ظهور القوانين البحرية ، وظهرت في اليابان نظم إدارية متأثرة بعامل الهزات والزلازل الأرضية التي يتكرر حدوثها هناك .

الركن الثالث ـ السلطة : وهي الهيئة العليا المنظمة وحجر الأساس في الدولة ، التي تتولى الإشراف على جميع شؤونها الداخلية والخارجية وتسييرها ، ولها القدرة على فرض سيطرتها الفعالة على أراضيها ، وإصدار أوامر واجبة التنفيذ ولو باستخدام القوة والإكراه عند الاقتضاء ، وهي بذلك تختلف عن السلطة التي تتولى القيادة في سائر التكوينات الاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها التي يخضع لها الأتباع بملء إرادتهم ، مع التنبيه إلى أن التنازع على السلطة أو غيابها المؤقت بسبب الحروب أو الثورات لا يفقد الدولة ضرورة وجودها .

البحث الثاني ـ خصائص الدولة
تتميز الدولة بخاصيتين أساسيتين ..

الخاصية الأولى – الشخصية القانونية : تعتبر الدولة من الناحية القانونية : شخصية قانونية موحدة ، وكيانا جماعيا دائما ، يتمتع بسلطة الأمر والنهي على نحو فريد في المجتمع ، يضم هيئة من الأشخاص الطبيعيين ( الحكومة ) يديرون السلطة العليا فيها ، وتسمى الشخصية المعنوية أو الاعتبارية تمييزا لها عن الشخصية القانونية الطبيعية للأفراد الآدميين . وثبوت الشخصية القانونية للدولة هو الأمر الذي يجعلها أهلا لاكتساب الحقوق والتحمل للالتزامات بموجب القانون الدولي ( اتفاقية مونتيفيديدو 1933 ) وبدون الشخصية القانونية يتعذر عليها أن تمارس وظائفها وتباشر مهامها .

المقومات القانونية للدولة : ولكي تكتسب الدولة صفتها القانونية ، يجب أن تتوفر فيها مجموعة من المقومات الأساسية ، باكتمالها تكتمل الصفة القانونية للدولة ، وبانتقاصها تنتقص الصفة القانونية لها .. والمقومات هي :

المقوم الأول ـ وجود دستور سليم : يعتبر الدستور القانون الأساسي الأول في الدولة ، ولا يجوز لأي قانون آخر أن تتعارض أحكامه مع أحكامه . ويتضمن الدستور المبادئ الرئيسية والقواعد الأساسية المنظمة للحياة السياسية التي تخضع لها جميع هيئات الدولة . فهو يقرر نظام الحكم وشكل الدولة ومدى سلطتها إزاء الأفراد والجماعات ، ويبين كيف يتم اختيار الحاكم ويبين سلطاته ويرسم حدود هذه السلطات بدقة ويبين كل الأمور الأساسية المتعلقة به . وينشئ السلطات ويحدد هيئاتها واختصاصات كل واحدة منها وحدود الاختصاص وما لها من امتيازات وما عليها من واجبات ، ويبين كيفية انبثاق السلطات وحركية تغيرها وكيف تمارس الاختصاص وطرق توزيع السلطة وتنظم العلاقات بينها . ويبين الحريات العامة وحقوق المواطنين وواجباتهم والاتجاهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يقوم عليها النظام ويتعين على كافة السلطات مراعاتها والالتزام بها .

والخلاصة : أن الدستور يسمو فوق القائمين على السلطات الثلاث : التشريعية والتنفيذية والقضائية ، ويمنعهم من تعدي حدود صلاحياتهم واختصاصاتهم ، فهو الضمانة الأولى لقيام الدولة القانونية . ويفترض أن تقوم الهيئة القضائية بحمايته من أي عبث من قبل الهيئات الأخرى .

ونظرا لأهمية الدستور وخطورته في استقرار الدولة ، أشير إلى بعض النقاط المهمة التي تتعلق به ..

النقطة الأولى ـ نشأة الدساتير : تنشأ الدساتير الوضعية بأساليب مختلفة بعضها ديمقراطي وبعضها غير ديمقراطي . أما نشأة الدستور وفق الرؤية الإسلامية فله أساس آخر مختلف سوف نتعرف عليه حينما نتناول الرؤية الإسلامية في القسمين : الأول والثاني من الكتاب ، وأكتفي عنا بالحديث عن نشأة الدساتير الوضعية .

أولا ـ الأساليب غير الديمقراطية : كأن يصدر الدستور بإرادة منفردة كمنحة من الحاكم أو في صورة عقد بين الحاكم والشعب لإنهاء نزاع نشب بينهما . لأن الحالة الأولى تجعل الحاكم في موقع السيادة الحقيقية وتجعل إرادته فوق إرادة الشعب ، أما الحالة الثانية فتجعل الحاكم شريكا للشعب في السيادة ، وتجعل إرادته على قدم المساواة مع إرادة الشعب . ومع ذلك يعتبر الأسلوب الثاني أكثر ديمقراطية من أسلوب المنحة ، لأن الأسلوب الثاني يجعل من الشعب طرفا في العقد ويمنع من إلغاء الدستور أو تعديله من طرف الحاكم بصورة منفردة .

ثانيا ـ الأساليب الديمقراطية : كأن يصدر الدستور بواسطة هيئة تأسيسية منتخبة بالكامل من قبل الشعب ويصبح نافذا بمجرد إقراره من قبلها ، أو عن طريق الاستفتاء الشعبي بأن تضعه لجنة فنية أو هيئة تأسيسية ثم يعرض على الشعب للاستفتاء ، ولا يصبح نافذا إلا بعد موافقة الشعب عليه . وكلا الطريقين ديمقراطي لأنهما يقران للشعب وحده بالسيادة وأنه مصدر جميع السلطات وصاحب الحق الوحيد في وضع الدستور ، وتعتبر الطريقة الثانية أكثر ديمقراطية لأنها تطبق مبدأ سيادة الشعب بصورة كاملة .

والخلاصة : أن طبيعة القانون طبيعة عامة غير شخصية ، والفرد العادي محدود الفكر وتسيره دوافع شخصية ويميل إلى الاستبداد والاستئثار . فلا بد أن تصدر الدساتير والقوانين في الدولة عن طرف غير شخصي : الله ( جل جلاله ) في الدولة الإسلامية أو جهة منتخبة تعبر عن الإرادة العامة للمواطنين وتخضع فيها المصالح الخاصة إلى المصالح العامة كما هو الحال في الدول الديمقراطية ، وإلا فقدت الدولة الشرعية والاستقرار .

النقطة الثانية ـ تعديل الدساتير : الدستور وفق الرؤية الديمقراطية تعبير عن إرادة الشعب في فترة زمنية معينة يعيش فيها أوضاعا وظروفا محددة ، وهو استجابة لحاجاته في تلك الأوضاع والظروف . وعندما تتغير تلك الأوضاع والظروف ، يصبح الدستور بحاجة إلى التعديل لمسايرة الأوضاع والظروف الجديدة . والدساتير التي لا تسمح بإجراء التعديل عليها ، تحكم على نفسها بالسقوط من خلال الانقلاب أو الثورة . وتعديل الدستور حق ثابت للشعب لأنه صاحب السيادة ومصدر جميع السلطات ، وأنه لا قيمة قانونية ولا أساس عقلي صحيح لحظر تعديل بعض مواد الدستور ما دام الشعب مصدر جميع السلطات ، بشرط أن يتم التعديل وفق الآلية المنصوص عليها في الدستور لتعديل المواد الدستورية . والقاعدة في تعديل الدستور أنه يأتي بالطريقة التي اتبعت لإصداره : فإن كان دستور منحة يحق للحاكم الإنفراد بحق تعديله مع أن بعض دساتير المنحة لا تعطيه هذا الحق ، وإن كان عقدا وجب إجراء عقد مماثل لتعديله ، وإن كان صادرا عن هيئة تأسيسية أو استفتاء وجب تعديله بالطريقة ذاتها .

النقطة الثالثة ـ إلغاء الدساتير : وذلك في حالة عجز الدستور كليا عن مواكبة التطورات وبروز الحاجة لدستور جديد ، وهو حق للشعب وحده باعتباره صاحب السيادة ومصدر جميع السلطات وفق الرؤية الديمقراطية . وعندما يقرر ذلك يتم التغيير عن طريق جمعية تأسيسية تنتخب لهذا الغرض أو عن طريق الاستفتاء . وقد يكون التغيير عن طريق الثورة أو الانقلاب وهو بطبيعة الحال أسلوب غير قانوني .

المقوم الثاني ـ تدرج القواعد القانونية : يتكون النظام القانوني من مكونات ( قواعد ) تتفاوت في درجتها وقوتها وقيمتها القانونية ، نستطيع أن ندرجها في أربعة مستويات أساسية تخضع فيها القواعد الأدنى للقواعد الأعلى بحيث تصدر متوافقة معها ولا تخالفها في الشكل والمضمون .. والمستويات هي :

المستوى الأول : القواعد الدستورية التي تمثل مستوى القمة في النظام القانوني .
المستوى الثاني : التشريعات العادية التي تصدرها السلطة التشريعية ( البرلمان ) .
المستوى الثالث : اللوائح الصادرة عن السلطة التنفيذية .
المستوى الرابع : القرارات الإدارية التي تصدر عن المسؤولين الإداريين في الهيئات الحكومية .

ويعتبر هذا التدرج من المقومات الأساسية لدولة القانون ، بحيث تكون كل القوانين والتصرفات متوافقة مع أحكام الدستور ، ولا تستطيع أية جهة إدارية في الدولة إصدار أي قرار إداري ( فردي ) إلا تطبيقا لقاعدة قانونية موضوعة سلفا ، ولا تستطيع اتخاذ إجراءات مادية تنفيذية مباشرة لتطبيق قاعدة قانونية عامة على الحالات الفردية بدون إصدار قرار إداري فردي مسبق .

والخلاصة : أن الدستور يقيد السلطة التشريعية عند سنها للقوانين بحيث لا تخالف أي نص دستوري ، ويقيد الدستور والقانون السلطة التنفيذية فيما تتخذه من لوائح وقرارات ، كما يقيدان السلطة القضائية فيما تصدره من أحكام في الخصومات بجميع أشكالها .

المقوم الثالث ـ سيادة القانون : القانون هو مجموعة القواعد التي تنظم الحياة في الدولة بكافة جوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها ، بهدف ضمان الحقوق والحريات على أساس العدل وضمان الاستقرار والتقدم والازدهار في الدولة . وذلك نظرا لتعارض المصالح وتداخل الحقوق بين الأفراد والجماعات والحاجة إلى تنظيمها وضبطها . ولا يتم ذلك إلا على قاعد المسؤولية المدنية والجنائية بحيث تلزم الدولة استنادا إلى القانون كل من يخرج على أنظمتها بالعقوبات الجنائية المنصوص عليها في القانون وتعويض المتضرر عما تلحقه من خسائر وما فاته من مكاسب .

الجدير بالذكر : ونحن بصدد الحديث عن القوانين ودورها في تنظيم الحياة العامة في الدولة ينبغي التنبيه إلى نقطة في غاية الأهمية .. وهي :
أن الحق فوق القانون ، فلا بد لكل قانون أن يقوم على الحق ويهدف إلى تحقيقه ولا يجوز له انتهاكه وإلا فقد شرعيته والزاميته . وتعتبر هذه القاعدة أساسا لصيانة الحقوق والحريات الفردية والجماعية للمواطنين ، وبدونها قد تنتهك السلطات في بعض الأوضاع غير الصحيحة للدولة حقوق المواطنين وحرياتهم باسم القانون ظلما وعدوانا ، ويكون المواطنون مع ذلك ملزمون بالخضوع ، وهذا أمر لا يقره عقل ولا دين صحيح .

المقوم الرابع ـ الحكومة القانونية : حيث تعتبر الدولة وحدة قانونية مستقلة عن أشخاص الحكام الذين يتولون السلطة فيها ويخضعون في جميع تصرفاتهم لأحكام القانون ، ولا يصدر عنهم أي تصرف في شؤون الدولة إلا بمقتضى أحكام الدستور والقانون . ويخضع القائمون على السلطة التنفيذية إلى رقابة السلطة التشريعية ، بحيث تكون الوظيفة الإدارية تابعة للوظيفة التشريعية . وتكون السلطات مسؤولة مسؤولية مباشرة عن صيانة حريات المواطنين وحقوقهم والتدخل الايجابي لكفالتها وضمان ممارستها وعدم السماح بانتهاكها أو التعدي عليها . أما إذا تعدى القائمون على السلطة صلاحياتهم ، وتصرفوا في شؤون الدولة وثرواتها وعائداتها كإرث شخصي ، وانتهكوا أي من حقوق المواطنين بكافة أشكالها ومستوياتها ولجأوا إلى الحد من حرياتهم العامة والخاصة ووضع القيود عليها من دون مبررات عقلائية صحيحة ، فإن الدولة تحيد عن الديمقراطية وتفقد شرعيتها وتتحول إلى دولة بوليسية مستبدة على غرار الدول في النظم السياسية القديمة التي يتمتع فيها الحاكم بسلطة مطلقة لا تخضع لقيود أو حدود معينة ، ويحق للمواطنين في هذه الحالة ـ بل من واجبهم الإنساني ـ إسقاطها والقضاء عليها .

يقول مونتسكيو : ” وأن أعضاء مجلسي الشيوخ في الجمهورية ، وكذلك الملك والموظفون في المملكة ، ليسوا سوى آلات في الجهاز الشرعي الناظم لمجموع المواطنين ، ولا يجوز أن يتجلى نشاطهم إلا وفق الأشكال التي يحددها القانون ، فإذا خالفوا القانون وجب عليهم أن يتخلوا ، وإلا فإن الشعب هو الذي سيقاد إلى الدمار .. فيجب أن لا تكون هناك سلطة فوق القانون حتى الملك ، ولا يجوز للملك أن يحكم إلا باسم القانون وليس له إلا أن ينفذ القوانين ” ( فلسفة الثورة الفرنسية . ص 54 ) .

ومن الناحية التاريخية : يعتبر الإسلام العظيم أول من أقام دولة قانونية في تاريخ البشرية يخضع فيها الحاكم للقانون ( شأنه شأن المحكومين ) ويمارس سلطاته وفقا لقواعد قانونية لا يستطيع الخروج عليها ، ويعطي للمواطنين حقوقا وحريات عامة نظمتها الشريعة المقدسة بدقة ووضوح ، وأحاطتها بضمانات تكفل حمايتها من اعتداء الحكام والمحكومين على حد ساء . إلا أن هذا لم يدم طويلا ، فقد عصفت به حكومة بني أمية ، التي أقامت نظام حكم استبدادي تلاشت فيه القيود التي فرضها الإسلام العظيم على سلطات الحاكم ، وأهدرت فيه كل الحقوق والحريات العامة للمواطنين .

قال الإمام الحسين ( عليه السلام ) : ” وقد علمتم أن هؤلاء القوم ( القائمين على دولة يزيـد ) قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلوا حرام الله ، وحرموا حلاله ” .
( البحار . المجلسي . ج44 . ص 382 ) .

وقال ( زهير بن القين ) في مخاطبة جيش يزيد في يوم كربلاء : ” إن الله ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لينظر ما نحن وأنتم عاملون . إنا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية ( يزيد ) و ( عبيد الله ابن زياد ) فإنكم لا تدركون منهما إلا سوء عمر سلطانهما ، يسملان أعينكم ، ويقطعان أيدكم وأرجلكم ، ويمثلان بكم ، ويرفعونكم على جذوع النخل ، ويقتلان أماثلكم وقراءكم .. أمثال : حجر بن عدي وأصحابه ، وهاني ابن عروة وأشباهه ” ( مقتل الحسين . المقرم . ص 178 ) .

وقد سارت حكومة بني العباس ومن جاء بعدهم على نفس المنوال ، حتى جاء عصر النهضة ، فأعيد طرح ما جاء به الإسلام العظيم وتم التوسع فيها في القرن السابع عشر الميلادي حتى لاقت رواجا واسعا في أوساط الفلاسفة وفقهاء القانون والشعوب على حد سواء ، وظهرت ثورات كبرى في انجلترا وأمريكا وفرنسا وإيران استطاعت من خلالها الشعوب انتزاع السلطة من الحكومات المستبدة ، وأقامت أنظمة حكم حولت السيادة فيها إلى الشعب ، واعترفت بحقوق الأفراد وحرياتهم ، واعتبرتها حقوقا مقدسة يجب على الدولة أن تكفلها للمواطنين .. وبهذا تصبح الدولة بحق دولة قانون .

ويترتب على الفصل بين السلطة والقائمين عليها وخضوع الحاكم وهيئات الدولة للقانون النتائج المهمة التالية ..

النتيجة الأولى : الحد من انتشار الفساد والظلم في الدولة ، ومن الصراع بين المتنافسين للاستحواذ على السلطة بشتى الوسائل والأساليب المشروعة وغير المشروعة .. مما يقوض الأمن والاستقرار فيها .

النتيجة الثانية : أن الدولة تهدف إلى تحقيق المصالح العامة لجميع أفراد الشعب بدون تمييز بينهم .. وليس تحقيق المصالح الشخصية للحكام .

النتيجة الثالثة : يجب أن تخضع الدولة وجميع الأشخاص القائمين على السلطة للقانون في جميع ما يقومون به من أعمال .

النتيجة الرابعة : أن لا يؤثر تغيير أشخاص الحكام القائمين على السلطة أو شكل الدولة أو نظام الحكم فيها ، على الحقوق التي تكتسبها الدولة والالتزامات التي تتحملها .. مما يعني : بقاء المعاهدات والاتفاقيات التي تبرمها الدولة حتى نهاية المدة المحددة لها ، واستمرار نفاذ القوانين الشرعية التي أصدرتها حتى تلغى صراحة أو ضمنا طبقا لأوضاع الدولة الدستورية .

المقوم الخامس ـ توزيع السلطات والفصل بينها : لقد درجت الدول الحديثة القائمة على الشرعية على توزيع السلطات على ثلاث هيئات : التشريعية والتنفيذية والقضائية ليكون لكل هيئة اختصاص محدد لا يحق لها أن تتجاوزه ، وتكون رقيبة على الهيأتين الأخريتين ، وذلك في سبيل صيانة الحقوق والحريات التي قامت الدولة من أجلها ، ومنع التعدي والاستبداد ، وضمان احترام القوانين وحسن تطبيقها .. وهذا مقوم من المقومات الأساسية لدولة القانون ، فإذا اجتمعت وظيفتا التشريع والتنفيذ في هيئة واحدة ، فإن هذا يؤدي حتما إلى عدم حيادية القوانين ، ومن شأنه أن يضر بالحقوق والحريات الشعبية في الدولة ويمحو عنها صفة دولة القانون .

المقوم السادس ـ تنظيم رقابة برلمانية وقضائية على الهيئات العامة للدولة : وهذا من أهم وأقوى مقومات دولة القانون ، لأنه يخضع القائمين على الحكم إلى القانون والمحاسبة القانونية لكافة تصرفاتهم ، وإلغاء أو تعديل كل إجراء صادر عنهم وفيه مخالفة للقانون شأنهم في ذلك شأن المحكومين . ويعتبر خضوع الحكام إلى القانون هو الضمانة الأكيدة الحقيقية لحماية حقوق المواطنين وحرياتهم ومنع الحكام من الظلم والتعسف ، وأن تطبيق القانون على المواطنين وإعفاء الحكام منه يجعل العلاقة بين الطرفين هي علاقة سادة بعبيد وليست علاقة كرامة كما هي العلاقة الصحيحة في دولة القانون . كما تشمل الرقابة القضائية أعمال السلطة التشريعية ، بحيث يمنع صدور أي قانون عنها مخالف للنصوص الدستورية ، كما تشمل الرقابة القضائية السلطة القضائية نفسها ، عن طريق تنظيم المحاكم بصورة متدرجة ، بحيث يستطيع المتقاضي استئناف الحكم أو تمييزه أمام محكمة أعلى ، مما يضمن حقوق الأفراد والجماعات ، وقـد أصبح هذا كله من سمات دولة القانون الحديثة .

المقوم السابع ـ حاكميه الرأي العام : واقصد به بصورة أساسية اعتماد رأي الأغلبية الذي يتم تشكيله في ظل الحرية على أساس الإقناع وليس على القمع والقوة . لأنه الوسيلة السلمية الوحيدة التي تضمن تحقيق المصالح العامة للمواطنين بدلا من الاقتصار على مصالح الأقلية والصفوة من الحكام وحاشيتهم . ويضمن حق المحكومين في اختيار نظام الحكم والحكام ومراقبة الحكام ومحاسبتهم وعزلهم في حالة مخالفتهم للدستور والقانون وتقصيرهم في أداء واجباتهم . وهذا المقوم يعتبر من أهم ضمانات تطبيق دولة القانون ، لأنه القوة التي تخشاها الحكومات وتجبر الحكام على احترام القانون والنزول عليه ، ومنعهم من التلاعب بعناصر الدولة القانونية والانقضاض عليها . ولهذا نجد الأنظمة الديكتاتورية المستبدة تحاول دائما السيطرة على الرأي العام من خلال السيطرة على وسائل الإعلام واحتكارها ، وتقوية أجهزة الاستخبارات وتوزيع العملاء بين صفوف الشعب من أجل إحكام السيطرة والقضاء على كل من يحاول التعرض للنظام بالنقد أو التجريح والحيلولة دون تشكل رأي عام معارض أو مضاد لها .

المقوم الثامن ـ التعددية الحزبية : تلعب الأحزاب السياسية دورا أساسيا لضمان دولة المؤسسات والقانون لما تقوم به من نشاط تنافسي على السلطة ومراقبة أعمالها ومحاسبتها محاسبة دستورية ، وبلورة الرأي العام والمواقف الجماهيرية وترجمة الفكر والتوجهات السياسية إلى سلوك ملموس على الأرض من خلال المطالبات والبرامج السياسية . ولهذا نجد الطبقات الاجتماعية والقوى الاقتصادية ترتبط بأحزاب سياسية في الأنظمة الديمقراطية من أجل الضغط على الحكومات بهدف خدمة مصالحها . كما تقوم الأحزاب السياسية بدور ملموس في إنعاش الحرية وفرض إرادة الجماهير وتحقيق ما تصبو إليه من صيانة الحقوق والحريات الفردية والجماعية وتطبيق الديمقراطية والأنظمة التي تطمح إليها . وهذا يتطلب أن تتصف الأحزاب نفسها بالديمقراطية ، وتتخلص من إصدار الأوامر الفوقية العليا للقواعد ومن القبضة الحديدية للقيادات ، وأن تفسح المجال للقواعد بالمشاركة الحقيقية الفعلية في صناعة القرار .

المقوم التاسع ـ حاكميه العرف : أقصد بالعرف : مجموعة القواعد التي تنشأ من عمل الناس بها والاستمرار على أتباعها عصرا بعد عصر . ولهذا اعتبرت أول مصدر من مصادر القانون ولا يجوز للسلطات مصادرتها . ويعتبر الالتزام بها ضمانة أساسية للحفاظ على الحقوق المكتسبة والحريات الفردية والجماعية . فلا يجوز مثلا صدور قوانين في أي بلد من البلدان تحد من الشعائر الدينية التي درج المواطنون على إقامتها لقرون عديدة من الزمن .

الخاصية الثانية – السيادة : هي مفهوم قانوني يشير إلى السلطة العليا النهائية في المجتمع التي لا تعلوها سلطة فيه ، وتعتبر الصفة الأساسية المميزة للدولة والملازمة لها ، التي تميزها عن كل ما عداها من التنظيمات والهيئات في المجتمع السياسي المنظم ، وتجعل منها صاحبة السلطة العليا التي تفرض إرادتها على إرادة كافة الأفراد والجماعات والهيئات والمنظمات في الإقليم ، فإذا حدث صراع بين الأفراد أو الجماعات أو الهيئات أو المنظمات داخل الإقليم ، فإن الدولة تتدخل من خلال هيئاتها الرسمية لإنهاء الصراع .. فالسيادة هي : مجموعة الاختصاصات التي تنفرد بها الدولة وتجعل منها وحدة واحدة غير قابلة للتجزئة مهما تعدد الحكام فيها . ولكل دولة هيئة أو جهاز ذو سيادة لديه القوة التي تمنحه حق ترجمة إرادة الدولة إلى صيغ قانونية نافذة المفعول ، ويعتبر القانون المجسد للسيادة والدليل عليها .. ويترتب على ما سبق النتائج التالية :

النتيجة الأولى : إن تعدد الحكام في الدولة يعني تقاسم الاختصاص وليس تقاسم السلطة ، لأن الحكام لا يملكون حقا في السلطة وإنما هم أدوات لممارستها .

النتيجة الثانية : ديمومة مفعول السيادة طالما بقيت الدولة قائمة ، بصرف النظر عن تغير شكل المؤسسات الدستورية وتغير الأشخاص الذين يمارسون السلطة .

وجوه السيادة : للسيادة وجهان أساسيان ..
الوجه الأول – السيادة الداخلية : وتعني أن سلطة الدولة في داخل إقليمها سلطة عليا حصرية لإصدار القوانين والتشريعات والمخولة بمهمة حفظ النظام والأمن واحتكار استخدام القوة لتطبيق القانون . فإرادة الدولة تسمو فوق إرادة جميع الأفراد والجماعات والهيئات والمنظمات ، وتهيمن عليها ، وتفرض إرادتها على إرادتهم ، وذلك عن طريق سيطرتها الاحتكارية على القوة الشرعية الأشد بأسا من أية قوة قد يمتلكها الأفراد أو الجماعات أو الهيئات أو المنظمات داخل الدولة .. وهذا لا يعني عدم وجود نقص في الطاعة أحيانا .

الوجه الثاني – السيادة الخارجية : وتعني المساواة بين جميع الدول ذات السيادة ، وعدم خضوع الدولة أو تبعيتها لغيرها من الدول ، وتمتعها بالاستقلال الكامل في السياسية الخارجية ، وأن تمتنع عن أي عمل يمس سيادة دولة أخرى ، وأن تكون لاعبا دوليا معترفا به من الدول الأخرى ، وتحظى بالمعاملة بالمثل بموجب القانون الدولي ، وفي قدرتها استقبال البعثات الدبلوماسية وعقد المعاهدات والاتفاقيات وإعلان الحرب والسلم مع الدول الأخرى .. وأن تفي بالتزاماتها معها .

وهنا تنبغي الإشارة إلى بعض الملاحظات المهمة ..

الملاحظة الأولى : تمارس الدولة سيادتها إما من خلال القوة أو التوافق ، ويتوقف ذلك على بناء الدولة ومدى النضج السياسي لدى الشعب . ففي الدول الاستبدادية تلجأ الطبقة الحاكمة إلى القوة لتأكيد سيادتها ، بينما يضعف دور القوة إلى حد كبير جدا لتأكيد السيادة في الدول الديمقراطية التي يتم فيها اختيار الطبقة الحاكمة عن طريق الشعب ، حيث يخضع الشعب طواعية للقانون ، لأنه يعبر عن إرادتهم ، ويخدم مصالحهم ، وليس إرادة ومصالح الطبقة الحاكمة .

الملاحظة الثانية : تعتبر السيادة شرطا للاستقلال السياسي للدولة وعضويتها في الأسرة الدولية ، وذلك عندما تعترف بها الدول الأخرى بوصفها المصدر الوحيد للممارسة الشرعية للسيادة داخل أراضيها . إلا أنه لا توجد اليوم دولا لا تعتمد ( بأي شكل من الأشكال ) على دول أخرى ، وتوجد دول تعتمد على المساعدات الاقتصادية الخارجية أو الحماية العسكرية من دول أخرى ، وأن سيادة الدولة تقيد بقيود القانون الدولي والمعاهدات والمؤتمرات الدولية ، ويصعب رسم الحدود بين سيادة الدولة والسيادة الدولية مما يوجد بعض التداخل بينهما .. وقد لا تراعى سيادة الدولة بشكل جيد من قبل المجتمع الدولي .

الملاحظة الثالثة : أن الانفتاح الثقافي والحضاري في عصر التقدم التكنولوجي والثورة في وسائل الاتصال والمواصلات ، يجعل تصرفات الدولة إزاء مواطنيها موضع تأثر كبير بالمفاهيم والقيم السائدة دوليا .

الملاحظة الرابعة : إن الكثير من الهيئات والمنظمات الدولية تسعى في الوقت الحاضر لفرض احترام حقوق الإنسان على الصعيد الداخلي للدول ، وهو ما كان يعتبر حتى الأمس القريب تدخلا في الشؤون الداخلية وخرقا لسيادة الدول .

البحث الثالث ـ نشأة الدولة والأسس التي تقوم عليها

تعود نشأة الدولة إلى ميل الإنسان نحو الحياة الاجتماعية ، وفيها توجد سلطة عليا تفرض سيطرتها على الأفراد والجماعات ، وتختلف نشأة الدول ( قديما وحديثا ) في الأسس التي تقوم عليها وأهمها الأسس التالية ..

الأساس الأول ـ القوة : حيث تنتصر جماعة قوية على غيرها من الجماعات وتفرض سيطرتها عليهم بالقوة المادية ، وترغمهم على طاعتها والامتثال لأوامرها كأمر واقع بغض النظر عن قناعتهم أو عدم قناعتهم بها .

وهنا تجدر الإشارة إلى بعض الملاحظات المهمة ..

الملاحظة الأولى : ليس من المستساغ في الفكر الإسلامي والفكر الإنساني الحديث منح الشرعية للسلطة لمجرد أنها انتصرت بالقوة المادية على الجماعات الأخرى وأخضعتها قهرا لامتثال أوامرها .. فلا بد من إحراز رضا المحكومين بها ، ولهذا نجد الدول في العصر الحديث ، تسعى إلى تعزيز سلطتها من خلال الانطباع بأن شرعيتها وسلطتها تستند إلى قاعدة جماهيرية واسعة ، من خلال إشراك أبناء الشعب في صناعة القرار ، وتقديم الخدمات المادية والمعنوية لأكبر عدد ممكن منهم .

الملاحظة الثانية : لا تستطيع القوة والإكراه ( عمليا ) أن يكونا أساسا متينا للسلطة ، وأن الدول التي تعتمد على القوة والإكراه في وجودها ، تبقى مهددة بصورة دائمة ومعرضة للانهيار بمجرد أن تضعف قوتها أو تصبح لدى جماعة أخرى من القوة ما تستطيع التغلب بها عليها .. وهذا ما أثبتته التجارب التاريخية والمعاصرة .

الملاحظة الثالثة : أن الدول التي تقوم على القوة والإكراه لا يمكنها إلا أن تكون وفق نظام ديكتاتوري بوليسي قمعي خطير ، يعتمد في بقائه على الإرهاب وقمع الحريات الفردية والجماعية للمواطنين وتقييدها بدون مبررات معقولة . ولهذا تكثر فيها الثورات والاضطرابات والانقلابات ، ولا يمكنها المحافظة على الأمن والاستقرار في البلاد وتحقيق السلام والتقدم والرخاء لأبنائها ، فهي تلغي فلسفة الدولة وتتجاوز حدود وظيفتها ، وتقوض الغاية المقدسة من قيامها .

ومن جهة ثانية : أن هذا النمط من الدول يـكون في العادة عاجزا عن رد العدوان الخارجي وتدخلات القوى الأجنبية في شؤونه ، لأنه يفتقر إلى التأييد الشعبي والحماية الشعبية ، مما يحمل حكامه على مجارات القوى الأجنبية لاسيما الدول العظمى والاستسلام لإملاءاتها على حساب استقلال البلاد ومصالح الشعب من أجل أن يستمروا في الحكم ، فهم شؤم على الشعب من جميع الجهات .

الأساس الثاني ـ الدين : حيث تقوم الدولة على زعم أساس الحق الإلهي ، والحاكم يزعم استمداد سلطته من الإله وليس من الشعب ، والنظر إلى السلطة على أنها امتياز خاص بالحاكم لا يشاركه فيها شخص آخر أو هيئة ، يمارس من خلالها اختصاصات شاملة لا تعرف القيود أو الحدود ، لأنه بحسب زعمه كذبا مفوض من السماء ، وهو ظل الله ( تبارك وتعالى ) في الأرض ، مما يجعله بمنأى عن المساءلة أو المحاسبة الشعبية على أعماله ، ويجعل التمرد عليه خطيئة أو ذنبا كبيرا .

وقد ظهر هذا النوع من الدول في المدنيات القديمة مثل العراق ومصر والهند والصين وفي أوربا في العصور الوسطى ، وهي العصور التي عرفت بالعصور المظلمة ، وتميزت بالتعصب الديني وكبت الحريات السياسية والاجتماعية والعلمية .

وتجدر الإشارة هنا إلى بعض الملاحظات المهمة ..

الملاحظة الأولى : تقوم الدولة الإسلامية على أساس الدين ، إلا أنها تختلف جوهريا عن هذا النوع من الدول ، وسوف يتضح ذلك في مستقبل البحث ( إن شاء الله تعالى ) .

الملاحظة الثانية : يمنح هذا النوع من الدول سلطات مطلقة إلى الحاكم مما يؤسس لحكم فردي شمولي مطلق ، ويؤدي إلى قيام مجتمعات ومتخلفة .

الأساس الثالث ـ العقد الاجتماعي : حيث يتمتع الإنسان في الأصل بحرياته الطبيعية التي توجد بوجوده وتثبت له بصفته الآدمية منذ ميلاده ، وهي جزء من القانون الأخلاقي الذي فرضه اللـه ( تبارك وتعالى ) على البشر ، ويدركها الإنسان بفطرته ومنطق عقله السليم . إلا أن الحياة الاجتماعية قد نتج عنها تعارض مصالح الأفراد والجماعات مع بعضهم البعض ، مما أوجد الحاجة إلى سلطة لتنظيم الحياة الاجتماعية العامة ، وحفظ الأمن والسلم الأهلي وتوفير الاستقرار للجميع ، وتحديد الحقوق والواجبات ، وضبط التنافس بين الأفراد والجماعات في حدود القانون ، والسهر على مصالح الأفراد وحماية حياتهم وحقوقهم من الاعتداءات المحتملة عليها ، والفصل في المنازعات بين الأفراد والجماعات والمؤسسات وضمان تحقيق العدل والفضيلة ، وإنزال العقاب بمن يعتدي على حقوق الآخرين ، والتقدم بالمجتمع نحو الأفضل وتحقيق الرفاهية والرخاء لأبنائه . وبدون السلطة يكون المجتمع في حالة فوضى واحتراب دائم ، وهذا لا يرضاه عقل إنسان ، والسبيل الوحيد للخلاص من هذه الحالة هو تنازل الأفراد عن بعض حرياتهم الطبيعية بالقدر الذي يسمح بإيجاد السلطة العامة ، مقابل الاحتفاظ بحريات معينة لا يمكن التنازل عنها ، وتضمن السلطة احترامها وحمايتها ولا يجوز لها المساس بها أو وضع القيود المجحفة على مزاولتها ، وكل قانون يضر بها فهو قانون باطل ، وتتوزع هذه الحريات على ثلاث مجموعات رئيسية في الحقوق ..

المجموعة الأولى ـ تتعلق بشخص الإنسان : مثل : حق الحياة ، وحق الأمن ، وحرمة السكن ، وحرية الانتقال .

المجموعة الثانية ـ تتعلق بفكر الإنسان : مثل : حرية الاعتقاد والعبادة ، وحرية التعليم ، وحرية التعبير عن الرأي ، وحق تقديم العرائض ، وحرية الاجتماع والتظاهر ، وحق تشكيل الجمعيات والأحزاب السياسية .

المجموعة الثالثة ـ تتعلق بنشاط الإنسان : مثل : حق العمل ، وحق الملكية ، وحرية التجارة والصناعة .

وهكذا يقيم الأفراد مجتمعهم السياسي بمقتضى عقد اجتماعي افتراضي بين الحكام والمحكومين ، يقوم على أساس توافق إراداتهم الحرة الواعية ، من أجل تنظيم حياتهم ، وحفظ حقوقهم وحرياتهم الأساسية ، وتحقيق التقدم والرخاء لمجتمعاتهم .

وهنا تجدر الإشارة إلى بعض الملاحظات المهمة ..

الملاحظة الأولى : أن الدولة لا تتمتع بسلطة مطلقة ، وإنما بالقدر الذي تنازل عنه الأفراد من حرياتهم مقابل الاحتفاظ بالحريات الأساسية التي ما وجدت الدولة إلا من أجل حمايتها . وأن الدولة الرشيدة لا تسن القوانين التي تتناقض مع ثوابت المجتمع وما هو متفق على اعتباره مبادئ للدين والأخلاق والعدالة والفضيلة والحرية ، وأن تحدي السلطات للمجتمع في مثل هذه المسائل يقود إلى التمرد على التشريعات والثورة على السلطة أو الانقلاب عليها .

الملاحظة الثانية : أن جميع المواطنين يتساوون في الحقوق والواجبات ، فيتساوون أمام القضاء ، وفي وظائف الدولة ، وفي الخدمات ( على سبيل المثال : السكنية والصحية والتعليمية ) التي تقدمها للمواطنين ، وفي التكاليف والأعباء العامة كالضرائب والخدمة العسكرية ، وفي الاهتمام برفاهيتهم وسعادتهم بغض النظر عن خلفياتهم الدينية والسياسية والاجتماعية والمهنية والتعليمية ، ولا يجوز التمييز بينهم على أساس الدين أو العرق أو اللغة أو الجنس ، ويعتبر التمييز بين المواطنين من أهم أسباب عدم الاستقرار ، وهو جريمة بحق الإنسانية يجب أن يعاقب عليها القانون .

الملاحظة الثالثة : أن الحاكم في الدولة له حقوق وعليه واجبات ، فإذا التزم بها كان له حق الطاعة على المحكومين ، وإذا خالفها أو قصر في تحقيق مهامه ووظيفته ، فإن ذلك يعطي للمواطنين الحق في الخروج عليه والعمل على إسقاطه واستبداله بغيره .

الملاحظة الرابعة : أن الشعب هو صاحب الحق الأصيل في السلطة ، ويجب على السلطة أن تضمن حق الشعب في اختيار حكومته والتداول السلمي للسلطة .

الملاحظة الخامسة : لا يجوز للقائمين على السلطة تسخير إمكانيات الدولة لخدمة مصالحهم الخاصة والتعامل مع ثرواتها وعائداتها كإرث شخصي يتصرفون فيه كما يشاؤون . ويجب عليهم السمو فوق المصالح الضيقة ، وأن يستخدموا صلاحياتهم ويوظفوا إمكانيات الدولة لحفظ حقوق المواطنين وخدمة المصالح الدائمة والثابتة وتحقيق أكبر قدر ممكن من العدالة الاجتماعية والرفاهية لكافة المواطنين .

الأساس الرابع ـ التشريع الإلهي : وهو يمثل النظرية الإسلامية في الحكم ، ويختلف اختلافا جذريا عن النظرية ( الثيوقراطية ) أو نظرية ( الحق الإلهي المزعوم ) التي سبق مناقشتها في الأساس الثاني ، ولكي نتبين هذه النظرية أشير إلى النقاط التالية ..

النقطة الأولى : إن الله ( جل جلاله ) هو خالق الإنسان ومربيه وإليه مصيره ومنتهاه ، فللـه ( العزيز الجبار ) الحاكمية المطلقة على الإنسان ، والإنسان موسوم بطابع العبودية الذاتية لله ( سبحانه وتعالى ) بحيث يحكم العقل والضمير على الإنسان الخضوع لله ( تبارك وتعالى ) في كل شأن من شؤون حياته من أجل سعادته والوصول إلى غاية وجوده ، شأنه في ذلك شأن سائر الموجودات .

قال الله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء } ( الحج : 18 ) .

فليس للإنسان أية سيادة خارج حدود الله ( تبارك وتعالى ) وهو مسؤول عن الالتزام بشريعة الله ( جال جلاله ) وتطبيقها ، ولا يملك حق التشريع إلا فيما ترك له حق النظر فيه في حدودها ، وهذه النقطة مما يفترق بها الإسلام عن الديمقراطية كما سيوضح بالتفصيل في القسم الثاني من البحث .

النقطة الثانية : إذا لم يكن للإنسان السيادة على نفسه ، فمن سخافة التفكير الاعتقاد بجواز سيادة غيره عليه ( كليا أو جزئيا ) وينتج عن ذلك استقلال الله ( تبارك وتعالى ) بالسيادة القانونية عليه في التشريع والقيادة ، ويعتبر ذلك هو السبيل الوحيد لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة ، لأن سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة ، تتوقف على توافق التشريع مع الحق وفطرة الإنسان وتكوينه .

قال الله تعالى : { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ . قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } ( الأنعام : 56 ـ 57 ) .

وهذا يتطلب أمرين أساسيين ..

الأمر الأول : أن يكون التشريع ( حصريا ) من عند الله ( تبارك وتعالى ) الذي يقول الحق وهو منشأه الوحيد .

قال الله تعالى : { مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } ( الأحزاب : 4 ) .

الأمر الثاني : وجود قيادة مفروضة الطاعة منه ( جل جلاله ) تؤمن بهذا التشريع الحق ، وتعرفه تمام المعرفة ، وتخلص في تطبيقه ، وتمتلك الكفاءة والقدرة للقيام بهذه المهمة العظيمة .. ويسمى الإمام .

قال الله تعالى : { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } ( ص : 26 ) .

ونصل من ذلك إلى النتائج المهمة التالية ..

النتيجة الأولى : لا يجوز لأحد أن يتخذ إماما لم يأمر أو لم يأذن الله ( تبارك وتعالى ) بطاعته .

النتيجة الثانية : يجب أن تتوفر في الإمام صفات أساسية لضمان سيادة الدين بعيدا عن الذات والانحراف .. في مقدمتها : العلم التفصيلي بالشريعة بواسطة ( الوحي للنبي ، والوراثة للأوصياء ، والاجتهاد للفقهاء ) والإخلاص للشريعة وضمان تطبيقها التطبيق الصحيح بواسطة ( العصمة للأنبياء والأوصياء والعدالة والكفاءة للفقهاء ) .

النتيجة الثالثة : أن الله ( جل جلاله ) لا ينعزل عن مقامه وسلطانه ويفوض للأنبياء والأوصياء والفقهاء التصرف نيابة عنه كما هو المزعوم في نظرية التفويض الإلهي التي تعطي الملك حق السيادة باسم الله ونيابة عنه بما هو ملك ، لا بما هو متلقي للتشريع من عند الله ( تبارك وتعالى ) وخاضع له وحاكم به .

إن النظرية الإسلامية تؤكد إنفراد الله ( تبارك وتعالى ) بالتشريع والحكم القائم عليه ، وأن الأنبياء والأوصياء والفقهاء هم عباد الله الأتقياء المخلصين ، الذين يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه وليس لهم أمر أو اعتبار إلا بما عندهم من الرسالة ، وأنهم يحكمون بما يـريهم اللـه ( تبارك وتعالى ) من الحق ، وأن أمره ( جل جلاله ) بطاعتهم مسبوق بمعرفتهم للحق وعملهم به ، وإبلاغه إلى الناس ، وإخلاصهم في تطبيقه والحكم به بين الناس ، فإذا خالفوه سلبت منهم السيادة القانونية الشرعية ، وأصبحوا من الطواغيت الذين يجب أن يكفر بهم .

قال الله تعالى : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ . وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ . وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ . تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ . وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ . لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ . ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ . فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } ( الحاقة : 40 ـ 47 ) .

وقال الله تعالى : { قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } ( الأنعام : 57 ) .

والخلاصة : أن السيادة القانونية الشرعية تنحصر في طاعة الله ( جل جلاله ) فما وافق حكمه يطاع ، وما خالفه يترك .

قال الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ” لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ” ( من لا يحضره الفقيه . ج4 . ص 372 ) .

النقطة الرابعة : لقد فرض الله ( تبارك وتعالى ) على المؤمنين ( شرعا ) العمل لأجل إقامة الدولة الإسلامية ، ولم يسمح لهم بالخضوع ( طوعا ) لحكومة الطاغوت أيا كان لونها ، لأنه خضوع لغير الله ( جل جلاله ) ولأنه يديم أو يطيل من عذابات البشرية . وإن إقامة الدولة الإسلامية في الوقت الحاضر أمر في غاية الإمكان ، وليس أكثر صعوبة من إقامة أية دولة معاصرة على المنهج الغربي الديمقراطي ، وأن نجاح الشعب المسلم الإيراني بقيادة الإمام الخميني في إقامة الدولة الإسلامية في إيران دليل عملي صريح على ذلك ، إلا أنه يحتاج إلى الصدق والإخلاص والصمود وتقديم التضحيات المقدسة في سبيل اللـه ( تبارك وتعالى ) .. مع التنبيه : أن هذا لا يعني أنني أتبنى ( عمليا ) العمل في الوقت الحاضر العمل على إقامة الدولة الإسلامية في البحرين .

قال آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي : ” إن الإسلام يدعو في أرقى أحكامه وقوانينه إلى مسألة الحكومة والولاية وإدارة الأمة ”

وقال : ” إن الضمانة الوحيدة لتطبيق أحكام الإسلام هو وجود الحكومة الإسلامية المؤمنة بسيادة أحكام القرآن ” ( الإسلام المحمدي . ص 183 ) .
البحث الرابع ـ عناصر السلطة
ما تقدم يقودنا للبحث في عناصر السلطة ومصادرها لكي نستطيع أن نتبين الموقف العملي تجاه الشريعة الإسلامية المقدسة .

تحتاج السلطة التي تتولى زمام القيـادة في الدولة إلى عنصرين أساسيين لكي تمارس مهامها ..

العنصر الأول ـ القوة : التي من خلالها تستطيع السلطة فرض إرادتها على إرادة المحكومين والقيام بدورها في إقرار النظام ، وتنمية الموارد ، وتحقيق أهدافها في تطوير الدولة ، وبدونها تفقد السلطة مصداقيتها وواقعها على الأرض ، بغض النظر عن شرعية الأساليب المتبعة لديها ، فقد تتبع أساليب مشروعة مثل الإقناع ، وقد تتبع أساليب غير مشروعة مثل الإغراء والتخويف والإرهاب .

العنصر الثاني ـ الشرعية : والمقصود بها ما به يسوغ للسلطة إعمال إرادتها ، واستخدام قوتها لفرض النظام في الدولة ، وبدون الشرعية تتحول السلطة إلى ظاهرة سلبية تتمثل في الاستبداد وتؤدي إلى ممارسة العنف والظلم ضد أبناء الشعب ، مما يهدد مصالح الشعب ، ويفقده الشعور بوجوده كشعب يمتلك إرادة حرة واعية .. الأمر الذي يوجب عليه : مواجهتها بهدف إصلاحها والقضاء على الظلم والاستبداد لديها ، أو الثورة عليها وإزالتها واستبدالها بسلطة غيرها تتمتع بالشرعية ، لأن القبول بالسلطة المستبدة من شأنه أن يقضي على الإرادة الحرة الواعية للشعب ، ويقضي على كرامته الإنسانية واستقلاله .

ومصدر القوة هو : الإرادة الاجتماعية الغالبة في الدولة ، فمن يمتلك هذه الإرادة يستطيع أن يمتلك السلطة وأن يحافظ على ديمومتها ، ومن يفقدها لا يستطيع الوصول إلى السلطة أو المحافظة على ديمومتها .

وعليه : فالسبيل إلى السلطة والمحافظة على ديمومتها هو الحصول على الإرادة الغالبة في المجتمع .. وذلك عن طريق : الهيمنة على مجموعة من الإرادات الفردية وتوجيهها توجيها يجعل منها إرادات متراكمة منسجمة تبلغ المستوى الذي تكون به الإرادة الغالبة ، ليكون من خلالها الوصول إلى السلطة ، بغض النظر عن شرعية أو عدم شرعية الأساليب المتبعة للحصول عليها ، وشرعية أو عدم شرعية الموازين التي تقوم عليها من جهة كونها متطابقة مع موازين الحق والعدل والفضيلة أو مخالفة لها .

والمطلوب إسلاميا : صدور السلطة عن الإرادة الشعبية الحرة الواعية ، والتعبير الصادق عنها ، والتداول السلمي لها ، في ظل الشرعية الدينية ورضا أبناء الشعب .

أما مصدر الشرعية في الدين الإسلامي : فهو الله ( تبارك وتعالى ) وحده .

ونخلص مما سبق إلى النتائج المهمة التالية ..

النتيجة الأولى : أن الأمة تتحمل مسؤولية الحاكم ، فإذا كان الحاكم عادلا ، فيجب عليها طاعته ، وإذا كان الحاكم جائرا ، فيجب عليها أن ترفضه ، وأن تقف إلى صف القيادة الشرعية العليا المؤهلة بالعلم والعدالة والكفاءة للثورة عليه والإطاحة به أو الإصلاح ، في سبيل تحقيق الدولة الإسلامية أو الدولة الإنسانية العادلة ، وليـس للمسـلم الحـق شرعا في أن يخضع طوعا لقيادة أو يطيع أمرا إلا استجابة لأمر الله ( تبارك وتعالى ) وفي ظل شريعته المقدسة العظيمة .

والخلاصة : فإن القيادة الإسلامية الشرعية العلـيا ( الأنبياء والأوصياء والفقهاء العدول ) تتحمل مسؤولية الحكم .. وأيضا : مسؤولية الثورة والإصلاح .

النتيجة الثانية : يجب على الأمة الإسلامية أن تصون استقلالها وسيادتها ولا تقبل بالخضوع للاستعمار الأجنبي والمناهج الشرقية والغربية .

وقال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ . فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } ( المائدة : 51 ـ 52 ) .

النتيجة الثالثة : أن الأمة الإسلامية تتحمل مسؤولية تصحيح المسيرة البشرية كلها ، وإيصال شعلة نور الحق إليها ، وهدايتها إلى رشدها الإيماني ، وتتحمل مسؤولية تحرير العالم من الأنظمة الطاغوتية وإقامة دولة العدل الإلهي العالمية ، وهذا فرض إلهي وتكليف رباني عليها أن تؤديه .

قال الله تعالى : { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا } ( الأحزاب : 39 ) .

وقال الله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } ( البقرة : 143 ) .

النتيجة الرابعة : يجب على الأمة الإسلامية أن تلتف حول قياداتها الشرعية المؤهلة التي تمتلك العلم والعدالة والكفاءة النفسية والعملية وتحافظ على قوتها ووحدة صفها وأن تصبر على المكاره ولا تلين في الشدائد والمواجهة .

قال الله تعالى : { وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } ( الأنفال : 46 ) .

وقال الله تعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ( آل عمران : 105 ) .

وقال الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ” مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ” ( صحيح مسلم . ج 8 . ص 20 ) .

وقال آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي : ” قال أحد الأكابر قبل بضعة عقود خلت : بني الإسلام على دعامتين : كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة ، والثانية تعود إلى الأولى ، بمعنى أن وحدة الكلمة تدور حول محور التوحيد . ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى هذا الشعار ، أي أن نعود إلى كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة ” ( الإسلام المحمدي . ص 549 ) .

البحث الخامس ـ خصائص الدولة الإسلامية

تتمتع الدولة بمجموعة من الخصائص المهمة ..

الخاصية الأولى : أن الله ( تبارك وتعالى ) هو المصدر القانوني الوحيد للسلطة ، وانه ليس لغيره أية سلطة مستقلة عنه على الإنسان ، وأن الكرامة الإنسانية تأبى أن يخضع الإنسان لغير الله ( سبحانه وتعالى ) وأما الأنبياء والأوصياء والفقهاء فهم سبيل الله ( تبارك وتعالى ) ويحكمون بما أنزل ، ولا يخالفون حكمه في شيء .

قال الله تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ . وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ . أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } ( المائدة : 48 ـ 50 ) .

الخاصية الثانية : أن الحكم الإسلامي حكم مبدئي { قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } فالإسلام العظيم يؤمن بقيم أخلاقية إنسانية واقعية ثابتة ، ويرى حكومة تلك القيم ونفوذها المطلق في الغايات والوسائل في مطلق أوجه النشاط في الحياة ، ولا يجيز للمنفعة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الشخصية أن تحاصرها وتقضي على نفوذها ، بخلاف المدارس الوضعية التي تقوم على مبدأ : ” الغاية تبرر الوسيلة ” .

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : ” والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر ، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس ، ولكن كل غدرة فجرة ، وكل فجرة كفرة ، ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة ” ( نهج البلاغة . ج1 . النص 126 ) .

وقال ( عليه السلام ) : ” أيها الناس !! إن الوفاء توأم الصدق ، ولا أعلم جنة أوقى منه ، وما يغدر من علم كيف المرجع . ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيسا ، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة ، مالهم قاتلهم الله ! قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه ، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها ، وينتهز فرصتها من لا حريجة له من الدين ” ( نهج البلاغة . ج1 . النص 41 ) .

وقال ( عليه السلام ) : ” فو الله ما دفعت الحرب يوما إلا وأنا اطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي وتعشوا إلى ضوئي ، وذلك أحب إلي من أن أقتلهم على ضلالهم وإن كانت تبوء بآثامها ” ( نهج البلاغة . ج1 . النص 55 ) .

ففي الدولة الإسلامية لا يجوز الإسلام للحاكم الشرعي أن يخالف الإسلام في قول أو فعل ، وعليه أن يعطي كل ذي حق حقه ، ولا يبخس الناس أشياءهم ، وأن يعتمد أساس الكفاءة في تعيين موظفي الدولة بدلا من المحسوبية والواسطة { قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } وأن لا تأخذه في الله لومة لائم ، فلا يتهاون ولا يتراخى ولا يداهن في تطبيق الحق والعدل ونشر الفضيلة ، وأن يسعى جاهدا إلى إشاعة الروح الأخلاقية بين المواطنين ، وتغيير محتواهم الداخلي طبقا للمبادئ الأخلاقية الإسلامية الإنسانية العالية ، لكي تصبح الممارسات الأخلاقية اندفاعا ذاتيا لهم وليست فرضا عليهم .

والخلاصة : أن الإسلام العظيم لا يقتصر على تنظيم الوجه الخارجي للمجتمع والدولة ، وإنما ينفذ إلى أعماق المواطنين الفكرية والروحية والأخلاقية ، ليجعل منها أساسا لتوجهاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية .

قال الله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ . فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ . وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ . وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ . هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ . مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ . عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ . أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ . إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ . سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ } ( القلم : 7 ـ 16 ) .

وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ” من أحد سنان الغضب لله ، قوي على قتل أشداء الباطل ” ( نهج البلاغة . الكلمات القصار . ص 501 ) .

وهناك استثناء ينبغي التنبيه إليه لكي لا يفهم مما سبق استغراق الإسلام العظيم في المثالية الخيالية بعيدا عن المصالح الجوهرية للإنسان ، فأخلاقية الإسلام أخلاقية واقعية تستهدف سعادة الإنسان بالدرجة الأولى وليس التحليق في الخيال بعيدا عن مصالحه الجوهرية ، ولهذا سمح الإسلام العظيم بتجاوز بعض المبادئ الأخلاقية حينما تكون المكاسب والأهداف ذات قيمة أخلاقية ودينية أكبر .. مثال : حينما يتوقف إنقاذ نفس مؤمنة من يد الظالم على خدعة أو قسم كاذب بالله العظيم ، فإن الإسلام العظيم يسمح هنا بالخدعة والقسم الكاذب ، لأن المكسب أو الهدف ذو قيمة دينية وأخلاقية أكبر وليس لأنه ذو قيمة أو مصلحة مادية ، بخلاف الفلسفات الوضعية التي تؤمن بتجاوز الأخلاق من أجل المصالح المادية تحت قاعدة : ” الغاية تبرر الوسيلة ” وليس المصالح ذات القيمة الإنسانية والأخلاقية الأكبر .

ويدخل ذلك من الناحية الإسلامية في دائرة : ” الضرورات تبيح المحظورات ” .

الخاصية الثالثة : تعتبر دولة الإسلام دولة قانون ، والإسلام العظيم هو أول من أقام دولة قانونية في تاريخ البشرية يخضع فيها الحاكم للقانون ( شأنه شأن المحكومين ) ويمارس سلطاته وفقا لقواعد قانونية لا يستطيع الخروج عليها ، لأن القواعد منزلـة من عـند اللـه ( تبارك وتعالى ) وتنفيذها تنفيذا لأمره ، والحاكم مكلف كالمحكوم ، ويعطي الإسلام العظيم للمواطنين حقوقا وحريات عامة نظمتها الشريعة المقدسة بدقة ووضوح ، وأحاطتها بضمانات تكفل حمايتها من اعتداء الحكام والمحكومين على حد ساء .

والخلاصة : إن إقامة الدولة الإسلامية تخلص الشعوب من تحكم الطبقة الحاكمة ومن تحكم المزاج والأهواء والغوغائية ومن عبودية أئمة الكفر وظلمهم .

الخاصية الرابعة : أنها دولة العدل والمساواة الضامنة للحريات والحقوق لكافة المواطنين ، المسلمين وغير المسلمين ، وصيانة كرامتهم وعزتهم .

قال الله تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } ( الحديد : 25 ) .

وقال الله تعالى : { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ( الممتحنة : 8 ـ 9 ) .

وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في عهده للأشتر : ” ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم .. فإنهم صنفان : إما أخ لك في الدين ، أو نظير لك في الخلق ” .
( نهج البلاغة . كتاب 53 ) .

وقال آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي : ” إقامة الحكومة ليست هدفا بحد ذاتها ، وهذه هي النقطة الجوهرية ، بل الحكومة أداة لتحقيق التطلعات . فإذا ما أقيمت الحكومة ولم تبادر لتحقيق التطلعات فهي حكومة منحرفة .. هذه قاعدة عامة ومعيار واضح ” .
( الإسلام المحمدي . ص 186 ) .

الخاصية الخامسة : أن الإمام هو القائد الذي تتبعه الأمة الإسلامية طبقا لشريعة الله ( تبارك وتعالى ) وأنه القائم على إقامة الدين وتطبيق أحكامه في المجتمع ، والمسؤول عن تعليم الأمة الكتاب والحكمة وعن تزكيتها وهدايتها إلى صراط الله العزيز الحميد ، وهو عقل الأمة وضميرها ، والمعبر عن آلامها ومحط آمالها وربان سفينتها ، وهو أمينها الساهر على أمنها وسلامتها وحريتها واستقلالها وتقدمها ورخائها ونشر العدالة والفضيلة والخير في ربوعها ، ويبين لها كافة الحقوق والواجبات ويصونها ولا يخونها أبدا ، وواجب الأمة طاعته ، وإسقاط كل من يعتدي على مقام الإمامة وحقوق الأمة بغير حق .

قال الله تعالى : { وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ . حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } .
( الأعراف : 104 ـ 105 ) .

وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : ” ومن استهان بالأمانة ورتع في الخيانة ولم ينزه نفسه ودينه عنها ، فقد أحل بنفسه الذل والخزي في الدنيا ، وهو في الآخرة أذل وأخزى .. وأن أعظم الخيانة خيانة الأمة وأفظع الغش غش الأئمة ” .
( نهج البلاغة . كتاب 26 ) .

والخلاصة : أن الإمام في الدولة الإسلامية يعبر عن إرادة الله ( تبارك وتعالى ) وعن إرادة الأمة ويمثلهما ، وأن الإسلام العظيم لا يسمح باستغلال مبدأ ( حكومة الله ) لقمع الإنسان وإذلاله وانتهاك كرامة المواطنين وسلب حقوقهم ، ولا يسمح بانفلات الأمة إلى خارج الحدود الشرعية والقيم والمبادئ الأخلاقية العليا .

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) في كلام له جامع للحقوق المتبادلة بين الإمام والأمة : ” وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي ، فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل ، فجعلها نظاما لألفتهم وعزا لدينهم ، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة ، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية . فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه ، وأدى الوالي إليها حقها ، عز الحق بينهم ، وقامت مناهج الدين ، واعتدلت معالم العدل ، وجرت على إذلالها السنن ، فصلح بذلك الزمان ، وطمع في بقاء الدولة ، ويئست مطامع الأعداء . وإذا غلبت الرعية واليها أو أجحف الوالي برعيته ، اختلفت هنالك الكلمة ، وظهرت معالم الجور ، وكثر الأدغال في الدين ، وتركت محاج السنن ، فعمل بالهوى ، وعطلت الأحكام ، وكثرت علل النفوس ، فلا يستوحش لعظيم حق عطل ، ولا لعظيم باطل فعل ، فهنالك تذل الأبرار وتعز الأشرار ، وتعظم تبعات الله سبحانه على العباد ، فعليكم بالتناصح في ذلك وحسن التعاون عليه ” ( نهج البلاغة . خطبة 216 ) .

وقال آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله : ” إن القيادة التي تعتبر نفسها جزءا من الجماهير هي القيادة التي يمكن أن تنفع الجماهير وتغيرها . أما القيادة التي تعتبر نفسها فوق الجماهير فهي قيادة لا تستطيع أن تفهم الجماهير ” .
( صراع الإرادات . سليم الحسني . ص 73 )

ونخلص من ذلك إلى النتائج المهمة التالية :

النتيجة الأولى : أن يكون الإمام رحيما بالأمة وعطوفا عليها .

قال الله تعالى : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } ( آل عمران : 159 ) .

وقال الله تعالى : { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } ( التوبة : 128 ) .

وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) في عهد للأشتر : ” واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ، ولا تكن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم .. فإنهم صنفان : أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق ” ( نهج البلاغة . كتاب 53 ) .

النتيجة الثانية : وقوف الأمة إلى صف الإمام وحضورها في كافة المشاهد التي تتطلب الحضور والمشاركة .

قال الله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ( النور : 62 ) .

النتيجة الثالثة : أن تكون الدولة الإسلامية سبيلا لإقامة الحق وإذلال الباطل ، وإحياء العدل وإماتة الظلم والجور والفساد وإنعاش المستضعفين والمضطهدين وكبح المترفين والمستكـبرين .

قال الله تبارك وتعالى : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ . وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ } ( القصص : 5 ـ 6 ) .

وقال الله تعالى : { قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ } ( القصص : 16 ـ 17 ) .

النتيجة الرابعة : أن تكون الدولة الإسلامية سبيلا إلى العزة والكرامة والاستقلال والحرية والفضيلة والتقدم والرخاء والثورة على الظلم والفساد والاضطهاد والاستبداد والتخلف والاستعمار .

قال الله تعالى : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفّـَارَ وَعَـدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } ( الفتح : 29 ) .

النتيجة الخامسة : حرمة تمكين الحكام المستبدين والظلمة في الأمة الإسلامية ووجوب مقاومتهم .

قال الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ” أربع من قواصم الظهر : إمام يعصي الله ( عز وجل ) ويطاع أمره … ” ( من لا يحضره الفقيه . ج4 . ص 161 ) .

وقال الإمام الحسين ( عليه السلام ) : ” أيها الناس ! إن رسـول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد قال في حياته : من رأي منكم سلطانا جائرا ، مستحلا لحرم الله ، ناكثا لعهده ، مخالفا لسنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغير عليه بقول ولا فعل ، كان حقا على الله أن يدخله مدخله ” .
( البحار . ج 44 . ص 382 ) .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً

إغلاق