محاضرات وندوات عام 2006

كلمة الأستاذ في تأبين شهداء العاصمة – المنامة

الموضوع : كلمة للأستاذ عبد الوهاب حسين .
المناسبة : تأبين شهداء العاصمة ـ المنامة .
العنوان : الشهداء أنصار الله وأحباؤه .
المكان : مسجد المؤمن ـ المنامة .
اليوم : مساء الخميس ـ ليلة الجمعة .
التاريخ : 3 / جمادي الثاني / 1427هـ .
الموافق : 29 / يونيو ـ حزيران / 2006م .
ملاحظة : ألقيت خلاصة الكلمة ( فقط ) فوق المنصة .

أعوذ بالله السميع العليم ، من شر نفسي الأمارة بالسوء ، ومن شر الشيطان الرجيم .
بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله رب العالمين .

اللهم صل علي محمد وآل محمد ، وارحمنا بمحمد وآل محمد ، وأهدي قلوبنا بمحمد وآل محمد ، وعـرف بيننا وبين محمد وآل محمد ، وأجمع بيننا وبين محمد وآل محمد ، ولا تفرق بيننا وبين محمد وآل محمد طرفة عين أبدا في الدنيا والآخرة يا كريم .
اللهم معهم .. معهم .. لا مع أعدائهم .

السلام عليكم أيها الأحبة ، أيها الأخوة والأخوات في الله ، ورحمة الله تعالى وبركاته .

قال الله تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } ( الحديد : 25 ) .

تتضمن الآية الشريفة المباركة محاور عديدة ألخصها في ثلاثة محاور رئيسية .. وهي :

المحور الأول ـ الرسل ومشروع عملهم :

قول الله تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ } .

الآية الشريفة المباركة : تقدـم الرسل ( عليهم السلام ) بوصفهم قـادة ربانيون يحملون مشروع السماء إلى الأرض بكـل أهدافـه وتفاصيلـه ، ولكي يحملوا هذا المشروع بحـق ، ويكونوا قادته بصدق ، فقد كانوا صنائع صاحب المشروع وتربيته ، ليكونوا ذائبين فيه بالكامل ، ويكونوا تجسيده الحي المتحرك ، والقدوة الحسنة إلى الناس في العمل به وتنفيذه على أكمل وجه وتحقيق أهدافه العظيمة على الأرض .

قال الله تعالى مخاطبا نبيه موسى ( عليه السلام ) : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } وقال مخاطبا إياه : { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } ( طه : 39 + 41 ) .

وقال الرسول الأعظم الأكـرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ” أدبني ربي فأحسن تأديبي ” .

وقالت أم المؤمنين عائشة في تعبير دقيق ورائـع في وصف الرسـول الأعظم الأكـرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ” كان خلقه القرآن ” ( رواه مسلم في صحيحه ) .

وهذا يدل على أن القيادات الإسلامية ( وعلى رأسها الأنبياء ) : يجب أن تتحرر من كل القيود الأرضية كالشهوات والخوف والطمع والعادات والتقاليد والقوانين الجاهلية المجحفة ، وأن لا يكونـوا أسرى ( سرا أو علنا ) لشيء أو لأحد أبدا .. سوى الله ( جل جلاله ) ليخلصوا ( بحق ) إلى مشروع السماء العظيم ، ويكونوا قادرين على حمله بأمانة وصدق ، ويكونوا قادته بإخلاص .

ويتألف المشروع الذي يحمله الأنبياء ( عليهم السلام ) إلى الناس من ثلاثة عناصر رئيسية .. وهي :

العنصر الأول ـ البينات : والمقصود بها البراهين الصحيحة الواضحة التي يقدمها الرسل ( عليهم السلام ) على صدق رسالتهم وأنها من الله ( جل جلاله ) وعلى الرؤية التي يقدمونها للكون والإنسان والحياة والمجتمع والتاريخ ، وعلى كافـة الأفكار والمفاهيم والمواقف التي يقدمونها إلى الناس ، فالإتباع بدون دليل قبيح عقلا وشرعا .. وتسمى بينـات : لأنهـا تبيـن الحـق من الباطل ، والصواب من الخطأ ، والجيـد من الرديء .. وتميز بينهما .

العنصر الثاني ـ الكتاب : وهو يتضمن القوانين أو الأحكام الشرعية التي تضبط سلوك الإنسان ومواقفه في كافة الأحوال والأوضاع : الخاصة والعامة .

العنصر الثالث ـ الميزان : وهو يتضمن القيم المعيارية للحكم على الأشخاص والأعمال والمواقف والأوضاع العامة والخاصة والأشياء ، لتوضع في مكانها المناسب ، وفق رؤية سماوية شاملة واضحة ، بعيدا عن الأهواء واختلاف الأمزجة والمصالح : الشخصية أو الفئوية أو الحزبية أو الطائفية أو غيرها ، وذلك من أجل استقامة الحياة وتوازنها وتطورها وتحقيق مصلحة الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة .. وتتضمن القائمة قيما مثل : الحق والحرية والعدل والخير والشجاعة والكرم والجمال والعفة والفضيلة .. الخ .

ونستخلص من الآية الشريفة المباركة الدروس التالية :

الدرس الأول : أن تنطلق حركة الإنسان التاريخية في الإصلاح والبناء والتعمير والثورة والتحرير من الفكر والإيمان والوعي ، وأن تكون واضحة الفكر والهدف ، لكي تمتلك القدرة على التحرر من القيود والأغلال الجاهلية ، وتنجح في تحطيم كافة العقبات الصعبة التي تقف في وجهها ، وأن تكون في الاتجاه الصحيح في الحياة وعلى الصراط المستقيم . ولكي يمتلك القائمون عليها القدرة على حمل رسالتها بقوة وأمانة { يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } وتبيينها إلى الناس عن وعي وصدق وإيمان { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا } ولا يصح تجريد الحركة من الفكر والإيمان : وإلا سقطنا في مستنقع العبث وجهالة العلمانية الضالة .

الدرس الثاني : الآية الشريفة المباركة تؤكد على ضرورة أن يقدم كل رسول الدليل على صدق رسالته ، لأن الإتباع بدون دليل قبيح ومرفوض عقلا وفي الشريعة الإسلامية النورانية المقدسة .. وعليـه : ينبغي ( استنادا إلى منهج القرآن الكريم ) على كل قيادة إسلامية ( عليا ) في عصر الغيبة أن تقدم الدليل على قيمة مشروعها في العمل ، وصحة منهجها فيه ، وكفاءتها وحسن إدارتها .. من خلال التجربة . وأن لا تتبع الجماهير أحدا قبل أن تقتنع بمشروع عمله ، وصحة منهجه ، وكفاءته وحسن إدارته للعمل من خلال التجربة . فلا يصح للجماهير أن تسير وراء الرموز والقيادات ( الدينية والسياسية ) بأعين مغلقة وآذان مسدودة ، وإنما تسير ( من أجل إبراء ذمتها ) بوعي وعلى بصيرة بعد التقييم : للمشروع والمنهج والأداء ، على ضوء التجربة وما تعلمتـه من البينات والأحكام الشرعية والقيـم التي تضمنهـا مشروع السماء العظيم ، ولا يصح أن تشغلها القشور والصور والعناوين الفارغـة وتصرفهـا عن الحقيقة والمضمون والقضية والأهداف .. مع التأكيد هنا : بأن أسوء ما ابتليت به البشرية في الحياة هو الشرك باللـه ( جل جلاله ) ومنه عبادة الأشخاص ، والجمود في الفهم بما في ذلك الجمود في فهم الدين الحنيف . لأن ميزة الإنسان وقيمته تكمن في حريته التي تقوم على أساس عقيدة التوحيد العظيمة ، وفي التفكير الذي يتضمن الشك والنقد الذي يحرك الإنسان نحو اليقين والتكامل .. وعليه : فكل من يسلب الإنسان حرية التفكير فهو معاد للدين والإنسانية .

يقول العلامة السيد فضل الله : ” لأن الله لا يريد للناس أن يؤمنوا الإيمان الأعمى الذي يسلم بالفكرة من دون قناعة فكرية مرتكزة على الحجة والبرهان ، لأن هذا الإيمان لا يوحي للإنسان باحترام نفسه وعقله ، ولا يوحي له باحترام العقيدة التي يؤمن بها ” .
( من وحي القرآن . ج22 . ص45 ) .

المحور الثاني ـ الغاية من بعث الرسل بالبينات وإنزال الكتاب والميزان معهم :

قول الله تعالى : { لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } .

هذه هي الغاية المقدسة العظيمة : ليقوم الناس ( كل الناس ) بقيادة الأنبياء بالقسط .
ليقوموا من تلقاء أنفسهم وبقناعة ذاتية ، وليس بتحريك من غيرهم .. فهناك أمران :

الأمر الأول : مسؤولية عامة تشمل كافة الناس في القيام بالقسط .
الأمر الثاني : أن يكون التحرك على المسؤولية من تلقاء النفس بدوافـع ذاتيـة على ضوء ما تعلمه الناس من البينات والكتاب والميزان .

فليست المسؤولية لشريحة معينة في المجتمع مثل : علماء الدين أو المثقفين أو السياسيين أو غيرهم .. وليست تتوقف على تحريك من الغير .

وقد أشار القرآن الكريم إلى تكليف القيام بالقسط في مواضع كثيرة .. منها :

قول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } ( النساء : 135 ) .

وقول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } ( المائدة : 8 ) .

والقسط .. هو : القسمة الواقعية للحصص من الثروة والمناصب والتقدير المعنوي والدور بين أبناء المجتمع أو الوطن ، بحيث يعطى كل شخص ما يستحقه من الناحية المادية والمعنوية فيهما .. ومن ذلك : وضع الشخص المناسب في المكان المناسب بحسب كفاءتـه وإمكانياتـه وقدراتـه بـدون تمييز على أساس العرق أو الجنس أو الدين .. فكل تمييز هو مجانب للقسط . ويبدأ القسط مع الطفل بنصيب طبيعي ، لأن كل طفل يولد في الحياة يكون له فيها نصيب بصورة تلقائية ، وهو نصيب طبيعي يجب على المجتمع أو الدولة أن يوفراه إليه ، ثم يتحدد لكل فرد بصورة تدريجية نصيب اكتسابي بحسب سعيه وعمله وكفاءته وقدراته التي يمتلكها ويقوم بتوظيفها فعليا في الحياة .

ويعتبر القسط .. هو : الأساس الأول الذي يقوم عليه صلاح المجتمع والدولة وأمنهما واستقرارهما وتطورهما وتقدمهما ، ويؤسس لمجتمع المحبة والأخوة والتعاون والاتحاد والتكامل ، ويحفظ لكافة الناس حق الحياة الحرة الكريمة ، وحق الاعتقاد وإبداء الرأي والاختيار . وبدون القسط ينتشر الفساد والتمييز والخوف والعداوة والبغضاء بين أبناء المجتمع أو الوطن الواحد ، وتنعدم الحرية والاختيار ، وتسود الدكتاتورية والإرهاب والاستبداد ، وتضيع عزة الإنسان وتهدر كرامته بدون حدود .

وتتضمن الآية الشريفة دلالات عديدة .. منها :

الدلالة الأولى : أن الغايـة من إرسال الرسـل بالبينات وإنـزال الكتـاب والميزان معهم .. هو إقامة القسط . وهو ( بالتالي ) غاية لكل القيادات الإسلامية التي يفترض فيها أن ترفض وتقاوم كل أشكال الاستكبار والاستبداد والدكتاتورية والظلم والفساد والتمييز والتخلف في المجتمع والدولة ، وأن تسعى لإقامة الحق والقسط ونشر الحرية بحق وحقيقة ، وأن لا تستسلم ، ولا تقبل القبول الذليل بالأمر الواقع المفروض على الناس من الظالمين والمستكبرين والطواغيت والمستبدين والمفسدين في الأرض ـ مهما كلفها الرفض والمقاومة من ثمن ـ وذلـك لأن : الاستسلام والقبول الذليـل بالأمر الواقع ، يأتي على خلاف العقل والدين وفطرة الإنسان وضميره وأخلاقه وعزته وكرامته ومصلحته وسعادته في الدنيا والآخرة ، وهو أمر مرفوض عقلا وشرعا .. وأن كل قيادة تقبل به : فهي بالحق والحقيقة ليست قيادة إسلامية .

قال الله تعالى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَـاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } ( يونس : 47 ) .

الدلالة الثانية : أن المهمة التي يقوم عليها الرسل والقيادات الإسلامية ليست مهمة روحية في دائرة العبادة الضيقة فيما تمثله من صلاة وصيام وحج وزكاة وأحوال شخصية فحسب ، وإنما هي مهمة حياتية شاملة تمتد إلى كل جوانب حياة الإنسان . فهي حركة في الواقع تندمج فيه السياسة مع الدين ، وليست مجرد حركة في الروح والأحوال الشخصية بعيدا عن تفصيلات الحيـاة العامة وتعقيداتها ومشاكلها وحلولها .. كما يريد البعض تصويرها . وأن إقامـة القسط يمثل الخطوة الأولى في غايـة حركـة الأنبيـاء ( عليهم السلام ) وخلفائهم في المجتمع والدولة ، وليست الغاية النهائية فيهما .. فبعد إقامة القسط : تتواصل على أساسـه حركـة الإنسان والمجتمع والدولة ( بقيادة الأنبياء وخلفائهم ) على كافة الأصعدة نحـو الكمال المطلق وهو الله ( ذو الجلال والإكرام ) بدون توقف .. ليصل الإنسان والمجتمع والدولة إلى ما هيأ لها من كمالها المنشود .

قال الله تعالى { يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ } ( الانشقاق : 6 ) .

الدلالة الثالثة : لا تصح الحركة الجماهيرية ضد الظلم والفساد والطغيان إلا بوجود قيادة واعية تمتلك كفاءة سياسية وإدارية ، وتشعر بآلام الجماهير ، وتطالب بحقوقهم ، وتسعى بحق وبصورة فعلية جريئة وشجاعة لإقامة القسط والعدل في المجتمع والدولة على ضوء البينات والكتاب والميزان .. وتصدق في التعبير عن الجماهير . ولكن لا يصح للقيادات تعطيل دور الجماهير في الحركة واحتكار القرار بيدها وحدها . ولا يصح أن تتوقف حركة الجماهير ضد الظلم والفساد على تحريك القيادات لها ، فتكون كالإمعة تقوم القيادات بتحديد كل صغيرة وكبيرة لها ، ولا تتحرك إلا بتحريكها . وإنما ينبغي أن يكون للجماهير وعيها العام : الفكري والديني والاجتماعي والسياسي والأخلاقي ، وشعورها الذاتي بالمسؤولية تجاه الدين والوطن والعباد ، وأن تمتلك القوة الباطنية والإرادة الحرة ، لتتحرك ذاتيا مع قياداتها الواعية المؤمنة جنبا إلى جنب . وأن تتحمل مسؤولية تشخيص واجباتها ومسؤولياتها الدينية والوطنية والإنسانية على ضوء وعيها بالبينات والقوانين الشرعية والقيم الربانية وإيمانها بالمشروع الرباني العظيم الذي اشتمل عليها . وأن تضع جميع قواها وطاقاتها الروحية والمادية في خدمة هذا الهدف الرباني العظيم .. وهـو إقامـة القسط . وأن تتحمل مسؤولية إيجاد القيادة في حالة عدم وجودها ، وأن تعالج جوانب الخلل فيها إن وجدت .

وأعتقد : أن أحد أهم المشاكل التي تواجهنا كشعوب إسلامية أننا ننتظر دائما ( بسبب التثقيف الخاطئ وسوء التربية ) أن تتحرك القيادات لنتحرك وراءها ، ولا نتحمل المسؤولية الخاصة في التحرك ، والسعي لملأ الفراغ القيادي ، ومعالجة جوانب الخلل في القيادات إن وجدت .. كما يحثنا على ذلك القرآن الكريم . وقد أدى ذلك أن أصبحنا فريسة لقوى الاستكبار العالمي ، وفرضت سيطرتها وهيمنتها علينا ، وخضعنا لها مكرهين ، وتكرس الظلم والدكتاتورية والقهر والاستبداد والفساد والتخلف في مجتمعاتنا الإسلامية ودولنا لقرون طويلة .. وعلة ذلك : ركوننا إلى الأرض والتصاقنا الثقيل بها ، وأننا نتلوا القرآن بدون تدبر في آياته ، ولا نحمل وعيه وأهدافه الحقيقية في الحياة .

الدلالة الرابعة : أن القسط هو الحقيقة المنسجمة مع نظام الوجود ، حيث كل ذرة في الوجود ، وكل جرم صغير أو كبير وكل ظاهرة تحتل مكانها وموقعها المناسب في الوجود .. وعليه : فإن الظلم والجور والقهر والاستكبار والاستبداد والطغيان كلها ظواهر مرضية شاذة في عالم الحياة والوجود .

قال الله تعالى : { وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ } ( الرحمن : 7 )

وقال الله تعالى : { شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ( آل عمران : 18 ) .

ومن جهة ثانية : فإن القيام بالقسط ينسجم مع إنسانية الإنسان والفطرة الإنسانية السليمة التي فطر الله الناس عليها ، وبدونه ينسلخ الإنسان من إنسانيته ، ويكون كالحيوانات التي تسهل قيادتها وتسخيرها فتركب أو تذبح ويؤكل لحمها .. كما يريد الاستكبار العالمي وتريده الحكومات والأنظمة الطاغوتية والمستبدة للناس أن يعيشوه . ولهذا جاء التحريض القرآني في الآية الشريفة المباركة بتعبير ( الناس ) { لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } بدلا من تعبير ( المؤمنين ) ليدل على أن التحرك نحو القسط هو سلوك إنساني ثابت لا يختلف فيه إنسان عن آخر ما دام يشعر بإنسانيته وعزته وكرامته كإنسان .. وبدافع من إنسانيته الكريمة .

والخلاصة : أن كل قبول بالاستكبار والاستبداد والظلم والقهر والفساد والذل والهوان والتخلف .. هو ضد الوعي والدين والضمير والإنسانية والأخلاق الفاضلة .

المحور الثالث ـ إنزال الحديد ومشروعية الجهاد بالسلاح :

قول الله تعالى : { وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } .

أيها الأحبة الأعزاء : الحديد معدن إستراتيجي مهم في الحياة ، وهو يستخدم في الصناعات المدنية والعسكرية الكثيرة ، وله منافع ضخمة لإشباع حاجات الإنسان الضرورية والكمالية ، ومن الممكن استخدامه ( من الناحية السلبية ) للقضاء على الإنسان وهلاكه . وقد بدأت البشرية عصرا جديدا بعد اكتشافه سمي بـ( عصر الحديد ) لأن هذا الاكتشاف قد غير الكثير من معالم حياة الإنسان وصورتها .

والآية الشريفة المباركة تنبهنا : إلى أن أشرف وأسمى وظائف الحديد هو استخدامه كسلاح في إقامـة القسط في المجتمع والدولة . لأن القسط هـو أساس صلاح الإنسان والمجتمع والدولة ، وعلى أساسه يقوم الأمن والتقدم والتطور في الحياة ، وبدونه يكون الفساد والخوف والظلم والاستبداد والتخلف . ولأن الحق والعدل والحرية والسلام لن تقوم في الحياة وتستقر إلا بالجهاد والاستعداد التام للمواجهة الشاملة ضد أعدائها ، ليجعل ذلك للحق والقسط والحرية والسلام قوة في حركة الواقع تمنع الظالمين والمستبدين والمتجبرين والطواغيت والمستكبرين من فرض سيطرتهم وحكومتهم على الواقع .. مع التأكيد هنا : على أن الاستعداد للمواجهة يمنع المواجهة والعكس صحيح .

فالآية الشريفة المباركة : تنادي بضرورة توفر الوعي العام : الفكري والديني والاجتماعي والسياسي والأخلاقي للناس ، وشعورهم بالمسؤولية تجاه الدين والوطن والعباد ، وامتلاكهم القوة الباطنية والإرادة الحرة ، من أجل إقامة القسط والعدل في المجتمع والدولة ، على ضوء البينات والأحكام الشرعية والقيم الدينية والإنسانية التي يتضمنها مشروع السماء العظيم الذي جاء بـه الرسل العظام ( عليهم السلام ) من عند رب العبـاد ( عز وجل ) ويقره العقل ، وتدعـو إليه الفطرة الإنسانية السليمة . وأن على المؤمنين إقامة القسط في المجتمع والدولة ، وهـذا هو تكليفهم الديني والأخلاقي في الحياة ، وهو تكليف ثابت ( كما يقول الفقهاء وعلماء التفسير وفق بعض الشروط ) وإن تطلب المواجهة بالسلاح ضد المضادين للقسط ، وذلك بعد أن تتعطل لغة العقل والمنطق والحوار ، وتصل الأمور إلى طريق مسدود بسبب تعنتهم ومكابرتهم بغير وجه حق .

يقول الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ” بعثت بالسيف بين يدي الساعة ، حتى يعبد الله وحده لا شريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ” .
( الأمثل . ج18 . ص72 ) .

ويقول الشيخ جواد مغنية : ” إنه سبحانه خلق الحديد ليمحص به عباده ، ويمتحن ما في قلوبهم من خير وشر ، ويظهره علنا إلى عالم الوجود والعيان ، كي يميز الخبيث الذي يتخذ من القوة أداة لأهوائه وأغراضه ، يميزه من الطيب الذي يرى القوة نعمة من الله فيستغلها لمنفعة الناس شكرا لله على نعمه ” ( الكاشف . ج7 . ص257 ) .

ويعتبر القرآن المواجهة مع المضادين للقسط بالسلاح وغيره : نصرة لله ( عز وجل ) وللإنسانية والرسل العظام ( عليهم السلام ) والديـن ، ويعـود بالنفـع على الإنسان نفسـه ، وبالإيجاب على أوضاعه العامة والخاصة ، ويحقـق له السعادة في الحياة الدنيا والآخرة .. ففيه : إظهار لفطرة الإنسان وعزته وكرامته ، وصلاح الدولة والمجتمع ، وأمنهما وقوتهما وتطورهما . والقبول بالظلم والاستبداد والقهر والذل والهوان ، يؤدي إلى ظهور الفساد في الدولة والمجتمع وإلى تخلفهما ، ويقضي على فطرة الإنسان وعزته وكرامته ، وهو منافي للدين والفطرة الإنسانية والعقل والأخلاق والضمير .. وفيه خذلان للرب الرحيم وللإنسانية المعذبة .

فالآية الشريفة المباركة .. فيها : تحميل المؤمنين لمسؤولية رص الصفوف وتوحيد الكلمة لنصرة الله ( عز وجل ) والرسل ( عليهم السلام ) والإنسانية المعذبة ، ورفض الظلم والقهر والاستبداد والفساد والتخلف في المجتمع والدولة ومقاومتها حتى القضاء نهائيا عليها . وفيها تحذير للظالمين والمستكبرين والمفسدين في الأرض ، بأنهم في حرب مع اللـه ( جل جلاله ) وجنوده في الأرض والسماء { وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وأن مستقبلهم هو الخزي والعار في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة .

أيها الأخوة الأعزاء : على ضوء ما تقدم من الحديث في رحاب الآية الشريفة المباركة والقرآن الكريم وأحاديث الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأهل بيتـه الطيبين الطاهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ( عليهم السلام ) فإني أقول في ذكرى تأبيـن كوكبـة من شهدائنـا العظام في العاصمة المنامة .. وهم : ( جعفر يوسف ، وجميل العلي ، وعبد الكريم الحبشي ، وفيصل القصاب ) : بأن الشهداء العظام ( عليهم الرحمة ، ولهم المغفرة والسعادة ) قـد قاموا بتكليفهم الشرعي والإنساني في نصرة اللـه ( جل جلاله ) ورسله ( عليهم السلام ) والمعذبين والمضطهدين المستضعفين في الأرض ، ورفضوا الظلـم والقهر والاستبداد والفساد والتخلف في البلاد ، وطالبوا بالحق والعدل والحقوق ، وبلغـوا أقصى درجات البـر في النصرة ، وذلك بتقديم أرواحهم قرابين لأهداف مشروع السماء العظيم وخدمة الإنسانية .. فهم ( بحق ) أنصار الله وأحباؤه . في مقابل الأشخاص الذين يستسلمون ويقبلون القبول الذليل بالأمر الواقع المذل المفروض على الناس من القوى المضادة للخير والحق والعدل والحرية والسلام ، ويتخلون عن الفطرة والعزة والكرامة والأخلاق والضمير ، وعن القيام بالتكليف العقلي والشرعي وعن المسؤولية الأخلاقية والإنسانية العظيمة في الحياة ، فيكون لهم بذلك الخزي والعار والشنار والشقاء في الدنيا والآخرة .

أيها الأحبة الأعزاء : نحن أمام امتحان مفصلي عسير في حياتنا ، تستخرج فيه الصفوة ( الناجحة ) التي تستجيب لنداء الفطرة والضمير والعقل والدين ، وتتحمل المسؤولية الشرعية والأخلاقية والإنسانية الملقاة على عاتقها .. لتكون مع الخالدين ، وتميز من الكثرة السائبة ( الراسبة ) التي تستجيب لنداء الأنانية والشهوات وتلتصق بتراب الأرض الفانية .. لتنتهي إلى النسيان والزوال .

إن دماء الشهداء العظام : صرخات مجلجلة تملأ آفاق الأرض والسماء إلى الأبد ، وهي تقول للظالمين والمستكبرين والمستبدين : أرفعوا أيديكم القذرة عن الناس وعن المستضعفين في الأرض ، أرفعوا أيديكـم القذرة عن عقولهم كي تفكـر ، وعن أرواحهم كي تحلـق في آفاق القيم والسماء العالية ، وعن أجسامهم كي تتحرك وتبني باعتدال ، واسمحوا لنهر الحياة العذب بالجريان على الأرض لتخضر وتينع ثمارها الطيبة وتؤتي أكلها إلى الناس .. كل الناس .

أيهـا الأحبـة الأعزاء : نحن شعب مظلوم ومعذب ومضطهد ، ومسلوب الحقوق ولقمة العيش ، وضحية للتمييز والفساد والجشع ، وهدفنـا رفـع الظلـم والعذاب والاضطهاد عـن أنفسنا ، واسترجـاع الحقـوق ولقمـة العيش ، والحصول على الحرية المشروعة ، وإقامة الحـق والقسط والعدل في المجتمع والدولة . وهذا حـق طبيعي وإنساني لنا في الحياة .. وليس لأحـد الحـق في أن يقول لنا : أقبلوا بالظلـم والقهر والاستبداد والجوع والفساد والتمييز والتخلف . وهـذا الحـق ( أيها الأحبة ) هو مصدر قوتنـا وصلابتنا كشعب مسلـم غيور ، فلا تقبلـوا ( أيها الأحبة ) بالظلم والذل والهوان والقهـر والاستبداد والتمييز والفساد والتخلـف ، ارفضوها بكافة أشكالها ، لأن القبول بهـا ( أيها الأحبـة ) مجانـب لأحكـام الفطـرة والعقل والدين والأخلاق والضمير ، ومجانب لعزة الإنسان وحريته وكرامته . حاربوها باللسان وبالقلـم وبكل الأساليب والأدوات المشروعة كما يدعوكم إلى ذلك الفطرة والعقل والدين والأخلاق والضمير . وعليكم أن تسعوا وتبذلـوا كافـة جهودكم لتوفير كافة الشروط اللازمة لشرعية الحركة ( دينيا ) ونجاحها في حركتهـا وتحقيـق أهدافها على الأرض موضوعيا ، وألزموا الاعتدال وانبـذوا التطرف والعنـف ( الاستخدام غير المشروع للقوة ) وتحلوا بالقيم والأخلاق الدينية والإنسانية التي تضمنها مشروع السماء العظيم في حركتكم ، ولا تسمحوا للقوى الشريرة المضادة للخيـر والحـق والعدل والحرية والسلام بإسكـات صـوت مظلوميتكم ، صوت الحـق والخيـر والعدل والحرية والسلام ، وضحوا بالنفس والنفيس من أجل تحقيق أهدافكم السامية العظيمة .. أهـداف السماء العالية ، وأوصلوا صوت مظلوميتكم إلى كل الأحرار والشرفاء في العالم بالصوت والصورة والمنطق والبرهان ، وحرروا أنفسكم من الخوف والظلم والاستبداد والقهر والعذاب .

قال أبو الأحرار الإمام الحسين ( عليه السلام ) : ” إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما ” ( تحف العقول . ص 176 ) .

وقال معلم الإنسانية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : ” الموت خير من الذل في هذه الدنيا ” ( ميزان الحكمة . ج5 . ص195 ) .

وفي الختام أيها الأحبة الأعزاء : علينا أن نعلم جميعا : بأن التخلي عن المواجهة الجريئة ضد القوى الظالمة المضادة للخير والحق والعدل والحرية والسلام ، والقبول الذليل بالأمر الواقع المفروض علينا منها ، لا ينسجم مع رسالـة الشهداء الخالدة ( التي هي رسالة السماء والإنسانية ) وتخليد ذكراهم العظيمة ، وأن التخلي عن المواجهة والقبول الذليل بالأمر الواقع ، ليس في حاجة إلى تخليد ذكرى الشهداء ، لأن الطريق غير الطريق ، والغاية غير الغاية . إنما يخلد ذكرى الشهداء ( بحق ) الثوار والإصلاحيون الحقيقيون المضحون السائرون على نفس الطريق .. والذين يحملون نفس المنهج والغاية والأهداف !!

أيها الأحبة الأعزاء
أكتفي بهذا المقدار
واستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم
واستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.